.. بين الحجاب والمثلية والتحرش ..
لماذا تندلع الصراعات الثقافية طوال الوقت في مصر؟
كيف يمكن لنقاش حول جرائم اغتصاب واضحة، ارتكبها مغتصب متسلسل، أن يتحول إلى صراع ثقافي في ظرف أيام قليلة؟
فقبل أيام في مصر انتشرت أخبار عن وجود جرائم اغتصاب متكررة داخل دوائر طلاب الجامعة الأميركية بالقاهرة، ارتكبها - كما تكشف شهادات الناجيات - أحد الطلبة المفصولين من الجامعة خلال فترة وجوده بالجامعة للدراسة، اشتعلت مواقع التواصل عبر مستخدميها في مصر لبشاعة الموقف، وطلب الجميع عقاب المجرم وتطبيق القانون وسرعة تطبيق العدالة، للوهلة الأولى لا يبدو أن هناك مشكلة يواجهها الجميع سوى جرائم الاغتصاب.
فقبل أيام في مصر انتشرت أخبار عن وجود جرائم اغتصاب متكررة داخل دوائر طلاب الجامعة الأميركية بالقاهرة، ارتكبها - كما تكشف شهادات الناجيات - أحد الطلبة المفصولين من الجامعة خلال فترة وجوده بالجامعة للدراسة، اشتعلت مواقع التواصل عبر مستخدميها في مصر لبشاعة الموقف، وطلب الجميع عقاب المجرم وتطبيق القانون وسرعة تطبيق العدالة، للوهلة الأولى لا يبدو أن هناك مشكلة يواجهها الجميع سوى جرائم الاغتصاب.
تحوّل النقاش بعد ذلك بعفوية ليشمل حقوق وأزمة النساء في مصر، من ارتفاع معدلات التحرش والاعتداء الجنسي بصفة عامة، وقد ساعد وقوع الجريمة في أوساط طلاب الجامعة الأميركية ووجود أغلب الضحايا الاجتماعي ضمن الطبقة العليا على تبني عدد من الإعلاميين والرموز الفنية حملة لمواجهة التحرش والاعتداءات الجنسية ضد النساء والفتيات بمختلف أنواعها، والدعوة إلى سن قوانين رادعة لحماية النساء في مصر، فضلا عن تشجيع الناجيات من التحرش والاغتصاب على الحديث وفضح المتحرشين، الأمر الذي شجّع نساء من مواقع اجتماعية مختلفة على التحدث والمشاركة للحديث عما يتعرّضن له في مصر من تحرش وتضييق واعتداءات جنسية لفظية ومادية، هنا تحديدا اشتعلت مواقع التواصل في صراع ثقافي حاد بين معسكر محافظ وآخر ليبرالي أو متحرر، صراع بات في حد ذاته ظاهرة متكررة في المجال الافتراضي المصري.
يُعيدنا هذا إلى ما حدث الأشهر القليلة الماضية، فقد شهدت مواقع التواصل والمنصات الصحفية الاستقطابات الثقافية نفسها ومن المعسكرات نفسها مع انتحار الناشطة اليسارية سارة حجازي، وقبلها مع جنازة المدونة المصرية نورهان نصار، وصولا إلى حوادث الاغتصاب الأخيرة وحملات مناهضة العنف والتحرش ضد المرأة التي خرجت ردا على تلك الحوادث وغيرها. هنا السؤال الذي نسعى للإجابة عنه: لماذا في الآونة الأخيرة، وفي تلك اللحظة تحديدا في مصر بكل التعقيدات السياسية والاقتصادية التي تمر بها، تتجدد الصراعات الثقافية والهوياتية بشكل مستمر؟
كما أسلفنا، بدأ النقاش بحوادث اغتصاب جرت وقائعها في الطبقة العليا، ومع توالي قصص الناجيات وملابسات الحادث، كانت تظهر بالتدريج أنماط الحياة والعلاقات الكامنة خلفها التي تمارسها وتعيش داخلها تلك الطبقة، كان هجوم الفئات المحافظة على هذه الممارسات والأنماط لابتعادها عن نمط الحياة الدينية المحافظة خافتا ولم يُثِر أي استقطاب، لانفصال يعترف به الجميع بين حياة وأعراف الطبقة الوسطى، وفي القلب منها المحافظون، وبين حياة الطبقة العليا داخل أسوار الجامعات الخاصة والمدارس الدولية والكومباوندات المترفة.
أتى هذا بالتزامن مع انتشار أكبر للحملة، وتشجع العديد من النساء والفتيات من خلفيات طبقية واجتماعية تنتمي في مجملها للمتن الاجتماعي الأساسي للحديث عن تجاربهن مع التحرش والاعتداءات الجنسية في الشارع والمواصلات وأماكن العمل، وهنا تحديدا كان منبع الاستقطاب الذي عمّ مواقع التواصل والمنصات الإعلامية.
التحرش الجنسي كما تشير إحصائيات الأمم المتحدة موجود في مصر بمعدلات عالية ومرعبة ويكاد يطول كل الإناث تقريبا، لكن الخلاف الذي أخذ يظهر مع انتشار وتزايد قصص الناجيات من التحرش ليس حول الظاهرة نفسها، لكن حول ما كشفته قصص الناجيات من التحرش من تباين حاد في أنماط الحياة وطبيعة العلاقات والموقف العلني من الدين ودرجات التحرر أو المحافظة، وظهور شريحة اجتماعية-ثقافية جديدة في طبقة اجتماعية لم تعتد وجود هذا النوع من الانقسامات بهذا الوضوح داخلها، فما الذي حدث تحديدا؟
يوجد تصور عام بين عدد واسع من المثقفين المصريين، أبرزهم الراحل جلال أمين، أن الصحوة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي قد هيمنت بالتدريج على الخيال الاجتماعي لعموم الطبقة الوسطى المصرية، ووصلت هذه الهيمنة إلى ذروة اكتمالها في التسعينيات من القرن الماضي واستمرت حتى عام 2011 مع ثورة يناير وبروز خيال اجتماعي جديد، مضمون الهيمنة الإسلامية أو المحافظة كان في إعادة صياغة الخيال الاجتماعي والسياسي لتلك الطبقة، إعادة صياغة بمعنى إضفاء الشرعية على أنماط حياتية معينة وأكواد أخلاقية وتصورات عن الصواب والخطأ وخلق رموز ومفكرين ودعاة وخطابات اجتماعية للالتفاف حولها، ومصادر متعددة لرأس المال الرمزي والاعتراف والسمعة الحسنة الطيبة.
يوجد تصور عام بين عدد واسع من المثقفين المصريين، أبرزهم الراحل جلال أمين، أن الصحوة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي قد هيمنت بالتدريج على الخيال الاجتماعي لعموم الطبقة الوسطى المصرية، ووصلت هذه الهيمنة إلى ذروة اكتمالها في التسعينيات من القرن الماضي واستمرت حتى عام 2011 مع ثورة يناير وبروز خيال اجتماعي جديد، مضمون الهيمنة الإسلامية أو المحافظة كان في إعادة صياغة الخيال الاجتماعي والسياسي لتلك الطبقة، إعادة صياغة بمعنى إضفاء الشرعية على أنماط حياتية معينة وأكواد أخلاقية وتصورات عن الصواب والخطأ وخلق رموز ومفكرين ودعاة وخطابات اجتماعية للالتفاف حولها، ومصادر متعددة لرأس المال الرمزي والاعتراف والسمعة الحسنة الطيبة.
وبحسب الباحث محمد نعيم فإن الدولة المصرية وعلى رأسها نظام مبارك، مُمثّلة في إعلامها الرسمي وغير الرسمي وإنتاجها الدرامي والفني وحتى التعليمي، استثمرت في هذه الهيمنة الثقافية للصحوة الإسلامية، لتمنع أولا الإسلاميين من المزايدة عليها دينيا ونزع شرعيتها، وثانيا لتحافظ على بقائها مرجعية أخلاقية وقانونية عامة لعموم الغالبية المحافظة من المصريين، لتأتي الثورة على هيمنة ثقافية شبه مكتملة تتقاسمها الحركة الإسلامية والنزعة المحافظة الدولتية الأزهرية، كمصدر لكل رأس مال رمزي واعتراف وشرعية وأخلاقية في الفضاء العام، لم تفلت من هذه الهيمنة سوى جيوب اجتماعية صغيرة من أبناء الرموز السياسية القديمة من اليسار والليبراليين والمثقفين العلمانيين، جيوب اجتماعية تشعر بالاغتراب داخل طبقة وسطى عريضة متدينة ومحافظة، وطبقة عليا منعزلة وغير فاعلة في الحياة الثقافية.
مع الثورة خرجت فئات عديدة من الطبقة الوسطى من الشرائح العمرية الشابة التي شاركت في الثورة أو تفاعلت معها عن الهيمنة القديمة بشقيها الإسلامي الصحوي أو المحافظ الدولتي، الغالب على هذه الشرائح أنها من المتن الأساسي للاجتماع المصري؛ أي إنها آتية من رحم الطبقة الوسطى المحافظة وتتمرد عليها في الآن ذاته، حيث تعيش تلك الفئات في المدن الرئيسية وتتشارك مع أقرانها الطبقيين الشوارع ووسائل المواصلات وأماكن العمل والدراسة نفسها، هنا تحديدا كانت جذور الانقسام الذي كشفت عنه حملة مناهضة التحرش الأخيرة. فقصص الناجيات التي تروي تفاصيل الاعتداءات التي تمت في حقهن كشفت الحجاب عن نمط حياة مختلف لفئات متحررة من الطبقة الوسطى، لديها خيال اجتماعي جديد لا يعترف بالكود الأخلاقي المحافظ القديم، بل ويتهمه بالنفاق والرجعية، ويحاول في سبيل تحرره من الهيمنة أن يخلق أكواده الأخلاقية البديلة ونمط حياته الذي يناسب خياله الجديد.
هذا الخيال الاجتماعي الوليد والذي ما زال في طور التشكُّل يحمل مشكلاته الخاصة بطبيعة الحال، وظهور قصص التحرش والانتهاكات بهذه الحِدّة والكثافة داخل هذه الأوساط الجديدة دليل واضح على ذلك، إلا أنه بالكيفية نفسها في ظهور هذا النوع من القضايا للعلن بهذا الصوت المرتفع والبحث الجاد من شريحة واعية بنفسها اجتماعيا وأيديولوجيا عن حلول لمشكلاتها ومحاولة تأسيس كود أخلاقي جديد، دليل على تراجع هيمنة النزعة المحافظة التي أسّسها الإسلاميون وساهمت فيها الدولة، مثلها مثل كل القضايا التي أصبحت تخرج للعلن في الفترة القصيرة الماضية كحقوق المثليين وقضايا الإجهاض والتفكير النقدي الذي يزداد حِدّة تجاه الدين، والانفلات اللغوي الصريح الذي بات ظاهرة اجتماعية عامة، والجرأة الواضحة تجاه الجنس والعلاقات العاطفية، وهو ما دفع بعض المحافظين، مستنكرين وجود هذه الشرائح ممن سُمّوا بالمجتمع الحقوقي أو مجتمع وسط البلد وما كشفته شهادات التحرش الخاصة بها، إلى أن يتساءلوا: "مين الناس دول وجم منين وعايشين في مصر تانية غير مصر بتاعتنا ولا ايه؟".
بحسب الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع بندكت أندرسن فإن استمرار بقاء أي مجتمع مرهون بقدرته على إعادة إنتاج نفسه، أي إعادة إنتاج شروط وجوده من أسس مادية في الاقتصاد والأمن مثلا، ولكن بالقدر نفسه من الأهمية الأسس المعنوية والأيديولوجية، كالنظام الأخلاقي والثقافي الذي يُضفي قدرا من الوحدة والتماسك على التجمعات البشرية داخل الاجتماع الواحد، ولكن أندرسن يؤكد مرارا أن هذه النظم الأخلاقية والاجتماعية هي محصلة صراع وهيمنة بين أطراف وقوى متعددة داخل المجتمع، تحاول أن تجعل قيمها وتصوراتها قيما عامة حاكمة للمجتمع ككل؛ وعلى النمط نفسه فإن هيمنة أي طرف مرتبطة عضويا بقدرة هذا الطرف على إعادة إنتاج هيمنته، أي إنتاج الشروط والخطابات التي تجعل قيمه وتصوراته بديهية ومقبولة مع تعاقب الأجيال والأحداث داخل المجتمع.
انطلاقا من طرح أندرسن نستطيع أن نرصد أنه منذ الثورة لم يُنتِج الإسلاميون والإخوان تحديدا أي منتج أيديولوجي أو محتوى خطابي طيلة فترة الثورة، لا دعاة جددا ولا رموز ثقافية وفكرية ولا نقاشات فكرية معتبرة لها التأثير نفسه لرموزهم ودعاتهم وخطابهم وقت صعوده وهيمنتهم، فضلا عن أن الدولة نفسها فقدت الكثير من رصيدها الأخلاقي والأيديولوجي في مواجهتها العنيفة مع الثورة وسعيها لتأسيس حكم شمولي عسكري، ما جعلها تعتمد على العنف المادي الصريح والقمع والاعتقال في كل المواجهات السياسية، وهو ما يعني إذا استخدمنا مفاهيم أندرسن أن قوى الهيمنة القديمة فشلت في إعادة إنتاج هيمنتها. هنا تحديدا الجذر الأساسي في الصراع الثقافي الممتد في مصر، الفراغ الذي خلقه الانحسار التدريجي للنزعة المحافظة على الطبقة الوسطى يعني أن الفضاء المشترك يُعاد صياغته من جديد، فالقوى التي سيطرت عليه لعقود فقدت زمام الأمور، وأصبح هناك فرصة لقوى جديدة أن تفرض شروطها أو تنال حقها بالوجود المشروع على أقل تقدير.
خلال الأسابيع القليلة الماضية وخلال هذا الجو المشحون، برز اسم الخطيب الأزهري والمؤثر على مواقع التواصل "عبد الله رشدي" الذي لم يكن يترك أي مناسبة أو نقاش إلا ويُدلي بدلوه كرمز وصاحب توجُّه محافظ، وبالفعل يمكن من خلال تتبع بسيط لصفحته وحجم التفاعل عليها وطبيعة المتفاعلين أن نجد أن الرجل التف حوله عدد كبير من المحافظين باعتباره ممثلا لهم، الجدير بالانتباه في غالبية كتابات الخطيب الأزهري على مواقع التواصل هو تذييله كل ما يكتب بوسم #الأزهر_قادم، تعبيرا عن انتمائه أولا لجامع وجامعة الأزهر، وثانيا للنزعة الدولتية المحافظة مميزا بذلك نفسه عن رموز الإسلام السياسي.
يحاول عبد الله رشدي، كما العديد من الرموز الأزهرية كعلي جمعة والحبيب علي الجفري وأسامة الأزهري، أن يملأ الفراغ الذي خلقه إقصاء الإخوان العنيف من المشهد، واستغلال إعادة الفرصة في إعادة صياغة الفضاء المشترك لصالح نسخة محافظة من الإسلام دون الحس السياسي النضالي للإسلام السياسي، استنادا إلى عالم الاجتماع الديني مارسيل غوشيه، فإن الأديان في المجتمعات الحديثة لحظة إعادة تشكيل المجال العام أو لحظة تفكك الهيمنة تتحول إلى هوية ثقافية محافظة تحاول أن تثبت مكانها على الأرض، أكثر من كونها أديانا تدعو إلى الهداية وتُبشِّر بالنعيم الأخروي، "فالهوية المحافظة لا تبغي الإقناع وهي في الوقت نفسه لا تقبل المعارضة، فهي لا تتحرك من إيمان روحاني في الداخل يسعى إلى نشر نفسه، وبالمقابل هي متصلبة في وجه الخارج، فيما يتعلق بموضوع الاعتراف"، نجد خير مثال في وسم #الأزهر_قادم لدى عبد الله رشدي الذي لا يشير إلى رسالة أخلاقية دينية تتحدث عن العالم الآخر، ولكن إلى هيمنة أيديولوجيا وخطاب لمؤسسة بعينها على المجال العام.
ليس معسكر المحافظين الدولتيين هم اللاعب الوحيد الذي يستثمر في الفراغ الذي تركه الإخوان والإسلاميون في عمومهم، بل هناك شريحة اجتماعية-ثقافية جديدة هي بالأساس نتاج الثورة، ونتاج فشلها العنيف كذلك، تحاول أن تؤسس نمط حياة مختلفا عن نمط الحياة المحافظ الذي ساد في الطبقة الوسطى لعقود، في سبيل سعيها لذلك تحاول أولا خلق كود أخلاقي يؤسس لاجتماعها الوليد الموازي، وثانيا تحاول نيل الاعتراف والوجود المشروع لنمط حياتها في العلن أو في الفضاء العام لعموم المصريين، لا خلف أسوار "الكومباوندات" حيث من الممكن أن يتغاضى الجميع عنها، لكن في أحياء ومدن الطبقة الوسطى المصرية وعلى مواقع التواصل وفي المجال التداولي الطبيعي لعموم المصريين.
يوجز مارسيل غوشيه فكرة الحاجة إلى الاعتراف في المجال العام في أنها "القناعة بالوجود المشروع لأنماط حياة وتصورات وأخلاق أخرى داخل الفضاء العام"، هنا تحديدا يكمن وجه آخر من وجوه الصراعات الثقافية المتجددة في مصر، كما أسلفنا فقبل الثورة وفي ذروة الهيمنة المحافظة على الفضاء العام، لم تكن تخرج قضايا التحرش وسط أنماط حياة واختلاط متحررة إلى النقاش العام، وهو تحديدا ما أثار حفيظة عموم المحافظين على مواقع التواصل لإدانة خروج هذه الأنماط الحياتية والممارسات للعلن، على صفحته عقّب الباحث الشاب وائل عواد: "معلش يا جماعة آسفين يعني بس هو فيه فرق كبير بين التحرش والاغتصاب اللي تتعرض له جل الستات في مصر واللي هو التعدي على حدود واضحة وصريحة معروفة للجميع وبين المواقف الناتجة عن مساحات رمادية نتيجة منظومة "تحررية" غير واضحة المعالم أو منظومة بتسمح للمناطق الرمادية دي من البداية. والكلام ده لازم يتقال بوضوح دلوقتي علشان بقالنا سنتين من ساعة قصة فتاة الإيميل واحنا بنشوف عملية فرض أجندة حريات شخصية بتستغل قضايا عادلة جدا زي قضية التحرش علشان يتم تمرير الأجندة ويبقى كله نضال وكله قهر"، رفض وائل لهذه الأجندة كما سمّاها هو تحديدا -اعتمادا على مارسيل غوشيه- رفض الوجود المشروع لهذه الأنماط في المجال العام.
لم تنجح حتى الآن الشريحة الاجتماعية والثقافية المُسماة على مواقع التواصل بـ "مجتمع وسط البلد" في الحصول على اعتراف مجتمعي بحقها في الوجود المشروع العلني، على الرغم من الخطوات المهمة التي حققتها خلال الأعوام القليلة الماضية، إلا أنها بالقدر نفسه تبدو وكأنها تتحلّل وتتفكّك من داخلها مع كل خطوة تخطوها للانفصال عن العُرف العام في مصر، تفشل في خلق البديل من أعراف وأكواد أخلاقية لصيانة اجتماعها الموازي، ومن ثم تكثر حوادث التحرش والاعتداءات، في حياة منفتحة ومنفلتة من القيود الأخلاقية السابقة، ويبدو أن أصحابها ما زالوا غير قادرين على إدارتها بشكل صحي، وهو ما يساهم بشدة في احتداد الاستقطاب الحادث، إذ تبدو للناظر من بعيد أنها مجرد حياة منفلتة بلا أي قواعد أخلاقية.
في صورة أوسع تبدو صورة المجتمع المصري مجتمعا مأزوما، فحوداث التحرش والاغتصاب ما زالت موجودة بمعدلات مرتفعة، وهي كما أوضحت الشهادات لا تُفرِّق بين أي طبقة اجتماعية أو دوائر ثقافية، ما يعني أن أي كود أخلاقي موجود حاليا ما زال غير مفعّل، ولا يوجد ما أو مَن يحمي النساء في مصر من التحرش والاعتداءات الجنسية في مدن صُنِّفت بأنها الأسوأ عالميا للنساء، فعجز المحافظين عن إعادة إنتاج الكود الأخلاقي القديم يساوي كذلك عجز الدوائر التقدمية والليبرالية في إنتاج البديل، وهو ما يُقدِّم صورة قاتمة عن وضع الاجتماع المصري بشكل عام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق