الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

الإنسان ولد حرًا فلماذا يسير طوعًا في العبودية المختارة..



كيف يُخــدع شعب بأكمله في الاستبداد به
 ..اللهم إلا إذا كان يخدع نفسه؟..



انتهى كلام “لابويسي” ولم ينته بعد عصر الاستبداد، والذل الخضوع والعبودية لغير الله، ولم تحتفل بعد ميادين الحرية بانتهاء عصر الديكتاتوريات وزوال الطغاة والمستبدين
محمود المنير: يعد كتاب (مقال في العبودية المختارة) الذي كتبه المفكر الفرنسي “اتين دي لابويسي”، أحد أهم وأشهر الكتب السياسية في التاريخ الأوروبي التي كتبت في القرن السادس عشر، حيث يرى الكثير من المؤرخين أن هذا الكتاب هو الذى مهّد للثورات في أوروبا لاسيما الثورة الفرنسية، الطريف أن “لابويسي” سطر هذا الكتاب المدهش الذي غير وجه أوروبا في سن الثامنة عشرة من عمره!
لعل من الأهمية بمكان أن نعيد قراءة هذا الكتاب مرات ومرات في هذه المرحلة الحاسمة والحرجة من تاريخ أمتنا فى خضم المخاض الذي تعيشه دول ثورات الربيع العربي، والتدافع الماثل بين معاقل الاستبداد، وميادين الحرية، والصراع بين الثورات والثورات المضادة.
وهنا أعيد طرح بعض الأسئلة شديدة الخطورة والتي سبق أن طرحها “لابويسي” في كتابه الفريد “مقالة في العبودية المختارة”، ومنها:
● - إذا كان هذا الإنسان قد ولد حرًا فلماذا يسير طوعًا في “عبودية مختارة”؟ ولماذا يتحول إلى عبد مسلوب الإرادة لطاغية؟
● -  كيف يعلو الطاغية على رؤوس الناس؟ ومن أين له أن يستمد قوته وسلطته التي يستمر بها في طغيانه واستبداده إذا لم تكن قد أعطيت له بمحض الإرادة؟!
● -  كيف يخدع شعب بأكمله في الاستبداد به اللهم إلا إذا كان يخدع نفسه؟
● -  كيف يتحول المقهورون إلى “جموع السعداء” في خدمة قاهرهم؟
● -   كيف يتعايش الناس مع العبودية؟
●- كيف يتحول الخوف من الطاغية إلى ثقافة تسود المجتمع بأكمله، ويستمر المحكومون في عبوديتهم التي تتلبسهم في أدق تفاصيل حياتهم فيستسلمون للقهر ويقرون بالعجز والدونية، فلا يجدون أمنهم وسلامتهم إلا في الخضوع والخنوع والاستكانة والإهانة والذل والنفاق والرشوة في تصريف حاجاتهم الحياتية اليومية ويخضعون لسطوة(الطواغيت الصغيرة) المستنسخة في أجهزة الأمن ورجال الحزب ورؤساء الإدارات؟
الكثير من الأسئلة الشائكة والمفجعة يطفح بها الواقع المؤلم الذي تعيشه شعوبنا، هذا الواقع الذى يؤكد أننا دفعنا من ضريبة الذل أضعاف ما ندفع الآن في سبيل الحرية، يقول “لابويسي” في معرض الإجابة على بعض هذه التساؤلات وغيرها: “ليس من السهولة الإجابة على هذه الظاهرة؛ لأن ما يفسرها ويبررها هو عهد مبطن يربط بين الحاكم والمحكوم، الأول يرى في الشعب مرآة لكماله، والثاني يرى في الطاغية مثالًا أعلى يكتمل بما ينقصه“، ويناقش جانبًا طبيعيًا وفطريًا في طبيعة الإنسان طالما ما زال يشعر بإنسانيته وهو حب الحرية، فيقول: “الحرية شيء طبيعي، ويبقى هذا بعينه أننا لا نولد أحرارًا وحسب؛ بل نحن أيضًا مفطورون على محبة الذود عن الحرية طالما بقي بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقينًا لا ينساق إلى العبودية إلا بواسطة أحد سبيلين: إما مكرهًا أو مخدوعًا“.
وبالتوقف عند فكرة “الإكراه والخداع” فالإكراه يكاد يكون مفهومًا نوعًا ما، أما الخداع فهو غريب وغير مفهوم؛ إذ كيف يخدع شعب بأكمله في الاستبداد به اللهم إلا إذا كان يخدع نفسه، وفى حقيقة الأمر هناك شعوب كثيرة استمرأت عبوديتها، ووصل الخوف فيها إلى درجة الاستلاب وما فقدته كان أكثر من حريتها إذ فقدت القدرة على الخروج من حمئة المهانة والمذلة والعبودية (حتى ليهيأ لمن يراها أنها لم تخسر حريتها بل كسبت عبوديتها!).
... السعداء بالطغــاة !!
أما كيف يتحول المقهورون إلى “جموع السعداء” في خدمة قاهرهم وكيف يتحول الخوف من الطاغية إلى ثقافة تسود المجتمع بأكمله، فيرى “لابويسي” أن الطاغية ببساطه يستقوي بخنوع الجموع السعيدة ويبتهج بانقيادهم وخضوعهم له، فيوظفهم كأشياء وقوالب معدة لخدمة خياله الشخصي ولتغذية إحساسه المفرط بالعظمة الذي لا يرتوي حتى يلبس التراب.
هذا الطاغية انقطع عنده كل شعور عاطفي يربطه بالإنسانية، ثمة شيء أسود يكمن في داخله وهذا الانقطاع شرط مهم للغاية لممارسة الطغيان المطلق الذي يجعل من الخوف المعنى الوحيد والأداة الوحيدة لممارسة السياسة؛ وبالتالي، تصبح الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيها!
يتحير “لابويسي” مثلنا في كيفية تحمل الناس لطاغية فرد هو في نهاية الأمر مجرد فرد(كيف أمكن لهذا العدد من الناس من البلدان من المدن من الأمم أن يحتملوا أحيانًا طاغية واحدًا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة علي الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إنه لأمر جلل).
وفى تشبيه دقيق يشبه الطاغية بالنار التي وقودها طاعة الناس وخنوعهم وخضوعهم له وفى تمردهم وإباءهم انطفاء هذه النار: 
(إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم كلما وجدت حطبًا فتزداد اشتعالًا ثم تخبو وحدها دون أن نصب ماء عليها، يكفي ألا نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما تهلك، تهلك نفسها بنفسها، وتمسي بلا قوة وليست نارًا. 
... كذلك الطغاة كلما نهبوا، طمعوا... كلما دمروا، كلما زادوا جرأة واستقووا... 
فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا عرايا مكسورين لا شبه لهم بشيء إلا أن يكون فرعًا عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوي).
ويرى “لابويسي” أن أحد أهم الأسباب التي تجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد، هو المناخ الذي ينشئون فيه، وضرب مثلًا بالفيلسوف الذي أحضر كلبين رضعا من ثدي واحد وربى أحدهما في البيوت والمطابخ والآخر في البراري والوديان. 
ثم أحضرهما ووضع أمام أحدهما طبقًا من الحساء والآخر أرنبًا فجرى هذا نحو الطبق والآخر نحو الأرنب!
إذا كان الخوف نتاج الاستبداد والطغيان اللذين حولا المجتمعات إلى ما يشبه مجتمعات عبودية يُفرض عليها الخوف وليست مختارة له، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
 ما السبيل إلى الخلاص من ظاهرة الخوف وثقافتها ومركباتها؟ لعل الإجابة العملية تكمن فيما نراه الآن في ميادين الحرية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، ولله در القائل:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياه مثل أن أتقدما ...
... صناعــة الفســاد ...
وعن سر صناعة الفساد، وسر إعجاب التابعين بالطغاة، يقول “لابويسي”: “أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه ويشدون البلد كله إلى مقود العبودية، يتقربون أو يقربهم إليه، ليكونوا شركاء جرائمه، وقواد شهوته ولذته. هؤلاء الخمسة أو الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، وينتفع في كنفهم ستمئة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية. ثم هؤلاء الستمئة يفسدون معهم ستة آلاف تابع، يوكلون إليهم مناصب الدولة والتصرف في الأموال، ويتركونهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلا في ظلهم، ولا بعدًا عن طائلة القانون إلا عن طريقهم ليطيحوا بهم متى شاؤوا، ليصبح ليس فقط الستة أو الستة آلاف بل الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل، لو شده لجذبهم كلهم إليه، فصار خلق المناصب الجديدة، وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل ذلك لا من أجل العدالة، بل من أجل أن تزيد سواعد الطاغية، فإذا الذين ربحوا من الطغيان يعادون في النهاية من يؤثرون الحرية. فما إن يستبد ملك، حتى يلتف عليه حثالة المملكة وسقطها، ليصبحوا أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير“.
... حبل الطغيـــان ...
ويحدثنا “لابويسي” أيضًا عن(حبل الطغيان) الممدودة عليه العيون البصاصة والكفوف الصافعة والأقدام الدائسة، ويمسك بأحد طرفيه الطاغية ويحكم قبضته به على أعناق الجميع بمن فيهم البصاصون والصافعون الذين باعوا آخرتهم بدنياه. ويصف حال أولئك الذين يخضعون للطاغية بلا أي مقاومة يعيشون كالعبيد يتلقون الصفعات برؤوس منخفضة صاغرين حائرين غارقين فى البؤس والأسى مستمتعين بوجودهم البليد.
ويقول “لابويسي”: (يا لذل شعوب فقدت العقل ويا لبؤسها، تسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان. تتركون حقولكم تنهب ومنازلكم تسرق وتجرد من متاعها القديم الموروث عن آبائكم! تحيون نوعًا من الحياة لا تملكون فيه الفخر بشيء حتي لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقي لكم نصف أملاككم وأسركم وأعماركم. كل هذا الخراب وهذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم، بل يأتيكم يقينًا على يد العدو الذي صنعتموه أنتم. هذا العدو، الذي يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، لا يملك شيئًا فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم التي لا يحصرها العد إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم. فأنى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ أنى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم خونة لأنفسكم؟).
انتهى كلام “لابويسي” ولم ينته بعد عصر الاستبداد، والذل الخضوع والعبودية لغير الله، ولم تحتفل بعد ميادين الحرية بانتهاء عصر الديكتاتوريات وزوال الطغاة والمستبدين!
في السياق: ” هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى، ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، وهو لا يملك شيئًا فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم؛ إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم“،  “لابويسي”.



قد يُمهل اللهُ العبادَ لحكمةٍ تخفى ويغفل عن حقيقتها الورى
قل للذي خدعته قدرةُ ظالمٍ لاتنسَ أن اللهَ يبقى الأقدرا








ليست هناك تعليقات: