الجمعة، 9 مارس 2012

مصر أرض الثورات بين الأمس واليوم والحملات المتتابعة لغزوها



مصــر لم تنم .. ولم تزل قظانة العينين صلبة القدم ..
في الأرض كالجبل وفي السماء للذري وللقمم

النهضة الأولى : القضاء على الإقطاع العسكري بتوقيع معاهدة لندن بتاريخ 15 يوليو 1840م، بين النمسا وبريطانيا وبروسيا وروسيا من جانب والسلطنة العثمانية من جانب آخر، تكون قد انتهت حقبة كاملة من النهوض المصرى الذى إبتدأ بموجة المقاومة الشعبية للغزو الفرنسى بمصر، والتى إمتدت ما بين 1779م حتى 1805م، عندما قام المصريون بخلع خورشيد باشا، ليسقطوا الحكم التركى العثمانى لمصر، وإن بقت للخلافة قوتها المعنوية.
 هذه الحقبة التى إبتدأت زمنياً بالحملات المتتابعة لغزو مصر فى ظل الحكم التركى المملوكى المتهاوى، وتاريخياً بالصدمة الحضارية التى إستشعرها المصريون بعد الغزو النابليونى، عندما رأوا الفاروق الحضارى المذهل بينهم وبين المستعمر الفرنسى، وفارق القوة فى شكله الأكثر فجاجة، ما بين السيوف الصدئة للمماليك المتحجرين
 ومدافع الفرنسيين وبنادقهم القوية. 
 هذا الشكل الفج لفارق القوة الذى إنتهى بهزيمة مخزية ومفجعة لمماليك الولاة، الذين تسلطوا على حكم البلاد بدعم الخليفة العثمانى، مُبعدين المصريين عن الجيش، ليبقى الشعب المصرى مستعبداً وذليلآ تحت حكم يستبد بمقدراته، وينهب خيراته، مستظلآ بمظلة الخلافة الإسلامية؛ فلا يملك المصريون له دفعاً.
 فحكم تركى يتسربل بعباءة الإسلام  ويتسلط على العباد بجيش يتكون من الأجانب ممن لا ولاء لهم للبلاد، كان بذاته عصياُ على السقوط بأيدى الشعب وحده، وهو ما يفسر إندماج موجة المقاومة للغزو الفرنسى بموجة الثورة على الحكم التركى المملوكى  .  
فحكم له مثل هذه الصيغة الأقرب للفاشية، تنطبق عليه حكمة جرامشى القائلة بأنه "ليس هناك حتى الآن نظاماً فاشياً أطاحت به قوى داخلية" .
فكان الغزو الفرنسى بذاته أداة تحطيم الآلة العسكرية للنظام التركى المملوكى، التى أجهضت الثورات المصرية المتتابعة، كذا كان عامل تحفيز للمقاومة الشعبية التى إمتدت لتصبح ثورة كاملة تطرد الأجنبى وتسقط النظام الساقط الشرعية، ولتأتى بمحمد على حاكماً إرتضاه الشعب، معلناً أنه هو صاحب السيادة ومالك الحق فى إختيار حاكمه، مُمثلاً ذلك بإلباس السيد عمر مكرم لباس الولاية لمحمد على؛ لتصبح موافقة الخليفة العثمانى شيئاً نافلاً، وملحقاً بإرادة الشعب.  
  هذه الثورة التى شاركت بها كافة فئات الشعب قادها رجال الأزهر، الذين خرج شبابهم – شباب الجراية الفقراء – وقليل من كبارهم يدعون للثورة، ويحشدون الجماهير الشعبية ضد المستعمر، مُخالفين سياسة الملاينة التى إتبعها كبار رجال الأزهر فى التعامل مع المحتل الفرنسى، إعتقاداً منهم بإمكانية تخفيف الآثار الضارة للإحتلال، كذا إحتفاظاً بإمتيازاتهم. 
 هؤلاء المشايخ الكبار متناقضى المواقف المترددين، لم تكن مواقفهم شراً مطلقاً، فكثيراً ما تعاموا عن البيانات المُعادية للفرنسيين، كما رفضوا إفشاء أسماء زعماء الثورة المصرية، وكثيراً ما تلكأوا فى دعم نابليون، وإن لم تكن مواقفهم فى مُجملها على مستوى الحدث، أو على مستوى مسئولياتهم كزعماء دينيين. 
هذه المواقف دفعوا ثمنها شعبياُ، فقد طالتهم الإنتقادات الشديدة من جماهير الشعب والتى وصلت للتهجم عليهم، وإيذائهم بدنياً، كرد على محاولاتهم المتكررة لإنهاء الثورتين، وكان منهم الشيوخ "البكرى والشرقاوى والسرسى".
 وكان لهذا الهجوم الشعبى على كبار المشايخ مردوده من ناحيتين
 أولاهما، تغير مواقف بعضهم ولو ظاهرياً تجنباً للسخط الشعبى، ثانيتهما، إقتناع القادة الفرنسيين وعلى رأسهم" كليبر"، بفشل سياية نابليون فى الإستعانة بمشايخ الأزهر للسيطرة على الشعب، فإستبين فقدان الإرستقراطية الأزهرية لدورها القيادى ومكانتها الدينية بالتحالف مع الغزاة. فهذه الإرستقراطية الأزهرية أثبتت، أنه حقاً أن المواقف الطبقية عابرة للمؤسسات، فلم يخرج مشايخ الأزهر الكبار عن المواقف الطبقية الإرستقراطية المهادنة للمحتل الفرنسى، بينما قاد أواسط وصغار رجال الأزهر الثورة، بعد أن أطلقوها من داخل الأزهر، فقد كانت الثورة الأولى بعد فرض ضريبة عالية على العقارات، وفى رواية، كانت الشرارة الأولى للثورة التى إندلعت فى 21 أكتوبر 1798م، قد أطلقها شيخ صغير من مشايخ الأزهر، خرج من الجامع، ونادى فى المدينة بإجتماع من يؤمن بالله واليوم الآخر على الجامع الأزهر؛ لمغازاة الكفار . هذه الإنطلاقة من الأزهر هى التى دفعت نابليون لإحتلال الجامع بعد كسر الثورة، كذا قراره بإعدام ستة من الشيوخ من أواسط علماء الأزهر، خلاف آخرين كانوا أعضاءاً فى مجلس الدفاع، الذى كان يقود الثورة، وكانوا بالمجمل ثمانين عضواً، أبرزهم الستة السالف ذكرهم، وهم:-
1. الشيخ أحمد الشرقاوى.
2. الشيخ عبد الوهاب الشبراوى.
3. الشيخ يوسف المصيلحى. 
4. الشيخ إسماعيل البراوى.
5. الشيخ عبد القاسم.
6. الشيخ سليمان الجوسقى.
 هذا التلاحم الأزهرى بالثورة، مع عجز الأرستقراطية الأزهرية عن كبح جماح الثورة، وحتى عن التوسط فيما بين الثوار والفرنسيين؛ هو ما دفع بالأخيرين لمحاولة إدماج فئات أخرى من الأرستقراطية للسيطرة على الشعب المصرى، فضموا للديوانين العمومى والخصوصى مُمثلين للتجار والأعيان وأصحاب الحرف والأقباط والجاليات الأجنبية، وذلك تحت قيادة كبار المشايخ. ورغم الدور العظيم للأزهر فى قيادة الثورة، إلا أنه فيما يبدو قد ضعف بعد حملة الإعدامات التى طالت جناحه الثورى بعد ثورة القاهرة الأولى؛ ما أعجزه عن قيادة الثورة الثانية، فتصدى للقيادة هذه المرة، التجار مع قيادات صغيرة فى القرى وصغرى المدن من مجاورى ومشايخ الأزهر الصغار والمتوسطين. أما عن وقود الثورة وقاعدتها الإجتماعية، فقد كان أساساً من التجار والحرفيين وصعاليك المدن والفلاحيين، وذلك تحت قيادة البرجوازية المدينية، المُتمثلة فى تجار يشاركون بعض كبار رجال مؤسسة الأزهر، التى تحولت بمواقفها من الرغبة فى العودة بمصر لظلال الخلافة الإسلامية، المتمثلة فى الحكم العثمانى، إلى الرغبة فى إسقاطه، وإعلاء شأن القومية المصرية . فقد إحتدم الصراع بعد الجلاء الفرنسى، ما بين طوائف الجيش العثمانى والمماليك، والذى إنتهى بعد شد وجذب إلى عودة المماليك بقيادة عثمان البرديسى للحكم، بالشراكة مع محمد على قائد الجنود الألبان، وذلك تحت تبعية شكلية للخلافة العثمانية، وهو الوضع الذى لم يستقر طويلاً، فعادت الفوضى والضرائب المجحفة، وطالب الجنود برواتبهم المتأخرة؛ ليفرض البرديسى ضريبة جديدة على جميع الأهالى، كانت سبباً فى تفجير ثورة مارس 1804م .
 وقد بدأها التجار بالإضراب عن دفع الضريبة، وساندهم الأزهر الشريف ومحمد على؛ لينهوا الحكم المملوكى نهائياً وليبدأوا فى الطموح لتولى قيادة البلاد بشكل كامل؛ ما جعلهم يصطدمون بالحكم التركى الذى حاول العودة للسيطرة على زمام الأمور، فكانت الثورة الجديدة التى فجرها إضراب الحرفيين إعتراضاً على رفع الضرائب والإتاوات، فقاموا بمسيرة للأزهر الشريف، الأمر الذى أجبر الوالى العثمانى على اللجوء للعلماء – المُستقلين- والقبول بحكمهم، كجزء من محاولاته لإستبعاد رجال الأزهر والتقليل من سطوتهم، ولينتهى الموقف بإلغاء الضرائب والإتاوات كما إشترط نقيب الأشراف السيد "عمر مكرم".
وعادت هذه الضرائب والإتاوات مرة أخرى، بعد إضراب آخر للجنود فى سبيل رواتبهم، لتنفجر الثورة مرة أخرى فى أول مايو 1805م، ليعود الناس للأزهر الذى أعلن الثورة، وأعلنوا – بعد إنقضاء مهلة أعطوها للوالى لإجلاء جنوده عن المدينة – أربعة مطالب عند دار المحكمة الكبرى، وهى :-
1. ألا تفرض بعد اليوم ضريبة إلا بعد إقرار العلماء وكبار الأعيان.  
2. إجلاء الجنود عن القاهرة، وإنتقال حامية المدينة إلى الجيزة. 3. عدم السماح للجنود بدخول المدينة بسلاحهم.  
4. عودة المواصلات ما بين القاهرة والوجه القبلى فوراً. وكان أن رفض الوالى المطالب، وحاول إعتقال المشايخ، فأعلنوا فى اليوم التالى عزله، وولوا محمد على مكانه، مُعلنيين أن العرف وأحكام الشريعة الإسلامية تقضى بحق الشعوب فى عزل الولاة وتعيينهم، بحسب سلوكهم وتراوحه ما بين مسالك العدل والظلم. ولم تلق هذه الخطوة الثورية قبولاً من المنافسين على حكم مصر، فلم يمضى شهرين حتى حاول المماليك العودة للحكم، وطلبوا دعم الأزهر، فتصدى لهم عمر مكرم، كذا حاول السلطان العثمانى عزل محمد على وإعادة المماليك، بل وأرسل أسطولاً لتنفيذ المهمة، التى فشلت مرة أخرى برفض الشيوخ ضمان المماليك للعودة للحكم، كما طلب السلطان؛ وهو ما أجبره على الإقرار بمحمد على حاكماُ لمصر.  
ثم كانت محاولة الغزو البريطانى، التى تزعم مواجهتها السيد عمر مكرم، فدعا الناس للجهاد وحمل السلاح لدحر الحملة، وأخيراً دعموا محمد على ضد العسكر الذين حاولوا الإنقلاب عليه. وكان لكل هذه الجهود في رفع محمد على لسدة الحكم، ودعمه ضد المناوئين دوراً كبيراً فى ازدياد النفوذ السياسي لمؤسسة الأزهر؛ بما جعلها مركزاً ثانياً لمنابذة محمد على فيما بعد، ومشاركته السلطة، التى رغب في الاستفراد بها، للقيام بمشاريعه في بناء الدولة العصرية، التى إستند في تكوينها إلى تحالفه مع طبقة التجار؛ ما جعله يعمل جاهداً على تحطيم السطوة السياسية لمؤسسة الأزهر،  فوجه ضربته الأولى لنفوذها المادى والاقتصادى، والثانية لوحدتها مستغلاً المنافسات بين قياداتها؛ ليخرج الأزهر من معادلة السلطة في مصر، ويصبح مجرد معهد تعليمى، تابع للسلطة في أغلب الأحوال. أما العدو التقليدى لمحمد على، المُتمثل في المماليك  ،  فقد توجب عليه القضاء عليهم نهائياً، لما مثلوه من قوة رجعية فاسدة، تعمل باستمرار على استعادة نفوذها وامتيازاتها، مُشكلةً بؤرة من عدم الاستقرار والتهديد المستمر، ومركزاً من مراكز الثورة المضادة، المدعوم من قبل الخليفة العثمانى المتربص بمصر؛ رغبةً في استعادتها لسيطرته المباشرة. وهكذا كانت مذبحة المماليك، أو مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811م، والتى قطعت دابر المماليك نهائياً، ما كان يمثل ضرورة تاريخية لحماية مصر من التآمر العثمانى المملوكى. وهكذا استقرت السلطة الجديدة التى أتت بها الثورة المصرية؛ لتبدأ في بناء الدولة العصرية الجديدة، التى ثبتت استقلال مصر – الجزئى رغم ذلك – تجاه السلطان العثمانى، وليرتفع طموح محمد على فيما بعد ليصل لمحاولة القضاء على السلطة العثمانية، ونقل مركز الخلافة لمصر، وهو الأمر الذى أفشلته دول أوربا وعلى رأسها إنجلترا، التى حمت رجل أوربا المريض، وقضت على طموح محمد على، وعلى حق مصر في تحقيق نهضتها المنشودة، ولتفرض عليها معاهدة لندن سالفة الذكر، التى سجلت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، إنكمشت مصر فيها على نفسها، شأنها دائماً بفترات الضعف والخمول . وقد رفض محمد في البداية الرضوخ لهذه المعاهدة، إعتماداً على صداقته لفرنسا، التى خذلته في النهاية؛ ليجد نفسه وحيداً فى مواجهة إنجلترا والدولة العثمانية، فانسحب من الشام والجزيرة العربية، قابلاً بشروط المعاهدة، التى سُويت كما يلى :  
1. إعطاء محمد على حكم مصر وراثياً، ولأكبر أفراد أسرته.  
2. إعتبار مصر ولاية عثمانية تسرى عليها القوانين العثمانية.  
3. منع محمد على من بناء سفن حربية إلا بموافقة السلطان العثمانى  
4. تحديد حجم الجيش المصرى.
5. إلزام مصر بدفع إتاوات سنوية للسلطان العثمانى.
6. ضم السودان إلى مصر، وتقديم تقرير سنوى عنه للسلطان. وهكذا إنتهت كافة مُنجزات محمد على وطموحاته على المستويين الإقليمى والقومى، بالتدخل الأوربى المُساند للعثمانيين ضد مصر، التى خافوا من توسعها وتصديها لقيادة الشرق، بما يمثل خطراً داهماً على مصالحهم في المنطقة، ومُخططاتهم المستقبلية، وقد تمثلت ثغرات محمد على في نقطتين أساسيتين، أودت بمشروعه وبالنهضة التى قادها، المُتمثلة في صناعة دولتية – قطاع عام – إحتكارية قوية، كونها بإرشادات السان سيمونيين، وأسطول حربى جبار كاد ينتصر – بمساندة الأسطول الجزائرى – على أساطيل أوربا، لولا بعض الأخطاء الاستراتيجية، وزراعة واسعة أنتجت القطن المصرى الذى مول اقتصاد مصر لسنوات طوال، نقول نقطتين أساسيتين أودتا بنهضة مصر التى صنعها محمد على، هما :-
[1]  إنفراد محمد بالسلطة واستبعاده للطبقة التى يفترض به الاستناد إليها للدفاع عن مشروعه النهضوى، بما أودى بهذا المشروع المرتهن بشخصه.   
[2] عدم إستنبات أو التعاون مع كتل أخرى في الإقليم لمواجهة السلطنة العثمانية والدول الأوربية – بإستثناء تعاونه مع الجزائر في المعركة البحرية الأخيرة ضد أساطيل إنجلترا - وإتباعه لذات الأساليب الإستبدادية التى لا تراعى حقوق الأقاليم الجديدة التى ضمها إليه؛ بما يمكنه من تكوين كتلة إقليمية قوية لمواجهة النفوذ الأجنبى. وهذه الطريقة التى انتهت بها النهضة المصرية في عهد محمد هى ذاتها التى إنتهت بها ثورة يوليو 1952م، بعد أكثر من (130) سنة، عندما هُزمت مصر عسكرياً بدون حرب في نكسة 1967م، التى إكتملت فصولها بمعاهدة كامب ديفيد الثانية عام 1977م، بإعتبار معاهدة لندن 1840م، معاهدة كامب ديفيد الأولى؛ لتسير مصر بعد الثورتين في مسار مُتشابه، فمن عزلة إقليمية وقومية، إلى تخريب كامل لكافة المُنجزات التى حققتها الثورتان، إلى تبعية سياسية وإقتصادية للغرب، مرة لبريطانيا وأخرى لأمريكا.  
[3] من طرائف ما يذكر بهذا الصدد لامبالاة المماليك بالتهديدات الخارجية بحجة أنه "إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم" (!!).  
[4] وكم وُظف الإسلام في خدمة السلطان، يدخل في هذا الباب أصوليوه وسلفيوه وصوفيوه، وبحق الأخيرين يورد الخبرتى في عجائبه نادرة "مولد السيد على البكرى المدفون بجامع الشرايبى بالأزبكية بالقرب من الرويعى،.....، وقد تقدم ذكر بعض خبر هذا السيد على، وأنه كان رجلاً من الُبله، وكان يمشى في الأسواق عرياناً مكشوف الرأس والسوأتين غالباً، وله أخ صاحب دهاء ومكر لا يلتئم به واستمر على ذلك مدة سنين، ثم بدا لأخيه فيه أمر لما رأى من ميل الناس لأخيه، وإعتقادهم فيه، كما هى عادة مصر في أمثاله، فحجر عليه ومنعه من الخروج من البيت وألبسه ثياباً، وأظهر للناس أنه أُذن له بذلك، وأنه تولى القبطانية ونحو ذلك، فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع ألفاظه والإنصاب إلى تخليطاته وتأوليها بما في نفوسهم، وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم من كراماته، وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات، وينطق بما في النفوس، فانهمكوا على التردد إليه، وقلد بعضهم بعضاً، وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شئ، وخصوصاً من نساء الأكابر، وراج حال أخيه واتسعت أمواله ونفذت سلعته، وصادت شبكته، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البو العظيم، فلم يزل على ذلك إلى أن مات ....، فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حُجر عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع، وعمل عليه مقصورة ومقاماً وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين، بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك، ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به، ويضعون في أعبابهم وجيوبهم...إلخ".  
[5] حسبما يفسر الدكتور محمود اسماعيل طبيعة العصر، فإنه بصفة عامة نجد أن الصراع بين شرائح الطبقة الحاكمة من أرستقراطية إقطاعية عسكرية كانت أكثر أهمية من صراعاتها كطبقة ضد طبقتى البرجوازية والعوام، اللتان عجزتا عن قيادة صراع ناجح ضد هذه الطبقة، فالبرجوازية كانت بتكوين هش يُعجزها عن الحركة، فضلاً عن إرتباط مصالح الشريحة الأساسية منها من كبار التجار بالسلطة القائمة، ما جعلها برجوازية مُساندة للسلطة ضد العوام، ولا يقدح في هذا تمرداتها الصغيرة في الحلقات الأضعف من تلك السلطة العسكرية، والتى لم ترتق لمحاولة استبدال السلطة القائمة. وبصفة عامة "إرتهنت الغلبة - في التحليل الأخير - بقدرة هذه الأنظمة على تكريس الثروات النهبية في الداخل والتوسعية في الخارج وتوظيفها في تدجيج حكمها بالعسكر الجديد الوافد".  لمزيد من التفاصيل راجع "سوسيولوجيا الفكر الإسلامى – طور الانهيار  – الخلفية السوسيو - تاريخية" – دكتور محمود اسماعيل.  
[6] العراق الصدامى آخر النماذج. 
[7] فقد كانت تشكل بصورة من الصور جزءاً من إحتياطى السلطنة العثمانية، بحكم روابطها الدينية مع الخلافة، خلاف كونها قوة مستقلة، تلعب دوراً إيجابي نعم، ولكنها تفتقد الرؤية بخصوص المستقبل، بما يجعل مشاركتها السلطة معوقاً للحركة، فهى مُفيدة خارج السلطة، وبعيداً عنها فقط.  
[8] والذين كانوا يمثلون ركيزة الإقطاع العسكرى فى مصر، الذى كان يعوق أى إمكانية لنمو برجوازى من أى نوع، فبقيت البرجوازية التجارية المُحجمة في سوق ضيق تسيطر عليه السلطة المملوكية التركية الإقطاعية ذات الطابع العسكرى.




ليست هناك تعليقات: