الأحد، 5 يناير 2020

الألم .. أعظم مفجِّرٍ للعبقرية


الألم .. أعظم مفجِّرٍ للعبقرية


مما لا ريب فيه أن الناس يتفاوتون في الحظوظ وفي المستويات وفي المراتب، علميًا وثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. إلا هناك درجةً من الدرجات الإنسانية الرفيعة التي لا تبلغها، في كل زمان ومكان، إلا القلة القليلة من البشر. وتلك هي درجة العبقرية. ومع بلوغ هذه الدرجة، يستحقّ الإنسان أن يُنظَرَ إليه بعين الإكبار والإجلال والثناء وأن يُشار إليه بالبَنان. فالعبقري هو الفرد المنوط بتقديم جليل الخدمات وأحسن المعروف للنوع البشري عامّةً. لكن من هو العبقري، وما هو تعريف العبقرية؟ 
ليس هناك تعريف دقيق للعبقرية، وقد يحصل بعض الخلاف بين الناس في تصنيف فلان على أنه عبقري أو عاديّ. لكن المتعارف عليه وما أصبح موضع إجماع بين أهل الاطلاع أن العبقري هو ذلك الإنسان الخارق للعادة، المتفوق على أقرانه بأشواط في مَلَكةٍ من الملكات الفكرية والروحانية والفنية. وكل عبقري هو إنسان موهوبٌ بالضرورة، وليس كل موهوبٍ عبقريًا بالضرورة. فالعبقرية تتطلب ما هو فوق الموهبة والاكتساب العادي، إنها تغرف من أعماق اللاوعي وتنسج بخيوطٍ خاصة جدًّا، لا تؤتى إلا عزيزةً ضنينةً لنخبة النخبة، بطلوع الروح وشقّ الأنفس. 
وليس هناك علاقة مباشرة بين الجهد وبذله وحجمه وبين العبقرية. فقد يكون المرء في غاية الاجتهاد والمثابرة والإصرار، ومع ذلك فلا حظّ له من العبقرية من قريب أو بعيد. وقد يكون المرء "كسولًا" بمعنى ما، ولكنه يتوقّد نبوغًا وعبقرية. وكذلك لا علاقة بين الذكاء المنطقي والعبقرية، فبعض العباقرة اشتهر عنهم البلاهة والسذاجة في مواقف معيّنةٍ، صارت مادة للتندّر والاستطراف. 
لو سألنا ما الذي يفجّر العبقرية؟ وما الذي يجعلها تخرج للعلن؟ وجوابنا هنا قطعي وجزمي: إنه الألم. نعم، لا شيء يبرز العبقرية إلى الوجود كالألم. وهنا بيت القصيد في التمييز بين العبقري وصاحب الموهبة الفذة والاستثنائية
فالعبقرية في صميمها قدرة هائلة على الإخلاص والتفاني والتركيز في موضوعٍ أو فكرةّ ما، تؤهّل صاحبها لأن يبصر ما لا يبصره الآخرون، وتأخذه إلى حيث حتى لا يجرؤون بالتفكير في الذهاب. إنها انصهار بالغٌ في المعاني وفي التجريد، يفيض فيضًا على صاحبه، فيصبح ويمسي مثقلًا بثمار هذا الفيض، الذي يتجلّى إبداعًا، ولا يجد راحة إلا بالتخفف من هذا الثقل، بوهبه مجّانًا للآخرين، دون منةٍ ولا مطالبة بأجر أو اعتراف. وهذا ما يؤدّي إلى بعض أطوار الغرابة التي يجدها العموم تنطبق على العبقري. فالعامي الذي يفكّر بعقلية السوق، وما فيها من مفاهيم البيع والشراء، يجد صعوبة بالغة في فهم العبقري، الذي استغرقته المعاني والأفكار حتى أذهلته عن كل شيء سواها، فأضحى لا يبالي بما يعده العموم عظيمًا، ولا يكترث لما يعتبره الجمهور غاليًا وثمينًا.
والعبقرية استغراقٌ كليٌّ في عوالم لا يطرق بابها الإنسان العادي في حياته أبدًا، في حين أن العبقري تتكرر زياراته إلى تلك العوالم، بشكل دوري اصطُلح على تسميته بـ"الإلهام" أو "الوحي". أي أن العبقري لا يكون في كل أحواله وأطواره مستغرقًا في دنيا العبقرية والنبوغ والإبداع، فالولوج في هذه الدنيا هو أشبه بالنشوات الحسية التي لا تُنال إلا للحظات قليلة في فترات متباعدة من الزمن. ومع أن العبقري في معظم اوقاته وأحواله يشبه الإنسان العادي، إلا أن لحظات الاستثناء تلك، والتي يستطيع فيها ولوج عوالم العبقرية، هي التي تتراكم على طول حياته، وتجعل منه عبقريًا فذًّا. 
لكن أين لنا أن نجد العبقرية؟ وأين نبحث عن العباقرة؟ وللإجابة عن هذين السؤالين، ما علينا إلا أن نبحث في ميادين العلوم الإنسانية والآداب والفنون، ففي هذه الحقول تظهر عبقرية بني الإنسان ويتجلى نبوغهم وإبداعهم. ويخطئ من يربط بين العبقرية والعلوم التطبيقية من هندسة وعلوم منطقية. فهذه المجالات جافّة باردة، مجافية للحرارة الروحانية التي تنطوي عليها العبقرية. ففي داخل كل إنسان عبقري، تتوهج شعلة في منطقة اللاوعي، مشبّعة بالروحانية وممتلئة بأسرار اللامنطق واللامعقول. ولذلك يبدو العباقرة وكأن بهم مسًّا من جنون أو خَبَل. فعالم اللاوعي يطبع تصرفاتهم بطابع يشذّ عن المألوف.
ولو سألنا ما الذي يفجّر العبقرية؟ وما الذي يجعلها تخرج للعلن؟ وجوابنا هنا قطعي وجزمي: إنه الألم. نعم، لا شيء يبرز العبقرية إلى الوجود كالألم. وهنا بيت القصيد في التمييز بين العبقري وصاحب الموهبة الفذة والاستثنائية. فقد يكون المرء أستاذ أدبٍ بارع واسع الاطلاع، وملمٍّ بالتيارات الأدبية وكبار الشعراء والأدباء، ومع ذلك فلا يعتبر عبقريا. وقد ينبغ شاعر أو أديب عبقري، لا ينتمي إلى المؤسسات الرسمية، ولا يرتبط بهيئات كلاسيكية، ومع ذلك يأتي بإبداع يجعل دكتور الأدب والشعر فاغر الفم مصعوق الفؤاد من التعجّب والدهشة. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس. 
فالعبقري يمتلك حافزًا يتفوّق به على أقرانه من أصحاب المواهب، مهما كانت استثنائية. إنه يملك حافز الألم الذي يدفعه قُدُمًا، ويلحّ عليه إلحاحًا رهيبًا، لا يملك حياله إلا أن يستجيب فيأتي بالإبداع تلو الإبداع. 
وهذا الألم هو الذي يجعله يصل إلى بواطن عالم الإبداع وكوامن دنيا اختراق العادات والخروج عن المألوف. وهذا ما يفتقده صاحب الموهبة العادية التي لا تبلغ العبقرية. فصاحب الموهبة العادية لا شأن له إلا اجترار إبداع الآخرين، او بمعنى آخر، إنه عالة على العباقرة الأفذاذ. 
فعباقرة الفكر والشعر والموسيقى والأدب والفنون كافة ما وصلوا إلى حيث وصلوا إلا بواسطة الألم والمعاناة. وليس الألم والمعاناة بالضرورة نتيجة لعامل خارجي، بل هي في معظم الأحيان نتيجة عامل داخلي وهو الحساسية المرهفة والشعور العميق بكنه الأشياء وبجوهر المعاني. فذلك الذي يحثّه الألم وتحفّزه المعاناة ليس كالمترف المتنعّم الذي لا يباشر نتاج الفكر والإبداع إلا من موقع سطحي.
على أننا في كلامنا هذا لا ندعو إلى الألم ولا نبشّر بالمعاناة، ولكننا نحاول الولوج إلى عالم العبقرية ونحاول أن نفهم أسبابها ودوافعها. وعلى اية حال، فالعبقرية هي استثناء الاستثناء وشذوذ الشذوذ، ولذلك فهي محصورة في نخبة النخبة وقلة القلة. وعليه، فلا بأس أن يتألّم أفراد قليلون معدودون من أجل أن تتمتّع الجماعة بالراحة وتبصر ما تعجز عن أن تبصره لو لم يَهْدِها إليه أفذاذ العباقرة.


ليست هناك تعليقات: