الخميس، 10 يناير 2019

"الأسد ليس حيوانا".. لماذا يعد الاستبداد مكونا بشريا خالصا؟..فيديو



.. "الأسـد ليس حيـوانا"..
 لماذا يعـد الاستبداد مكونا بشريا خالصـا؟



"بعد أن يطفئ البطريرك كل الأضواء في قصره ويلتحق بغرفة نومه وفي يده مصباح الانطلاق نحو الكارثة، يرى نفسه منعكسا على المرايا جنرالا واحدا، ثم جنرالين اثنين، ثم أربعة عشر جنرالا، ويتجلى ذلك ضمن إيقاع متكرر: حياة ثم موت ثم موت مزيف فحياة فموت فسقوط يعقبه سقوط، موت حقيقي، خرأوج الحشود إلى الشارع ثم سقوط، وكأنه يصر على أن لا وجود لنهاية سعيدة أو انعتاق حقيقي!"
   هكذا حكى لنا ماركيز في روايته "خريف البطريرك" عالم الديكتاتور السحري، ففي "سيمفونية مؤثرة وبحركة دائرية تجمع بين أحداث ماضية وتلميحات إلى أحداث أخرى آتية، حيث يتكرر فيها نفس العزف لآلات الرعب، نفس الأناشيد المتوحشة، نفس الصفير المكتوم المنبعث من فتق خصية بطريرك مستنسخ لكل الأزمان، هي نفس تلك الخاصرة التي كلما ارتفع فيها الزبد ظن الطغاة الجدد أن باستطاعتهم قضم العالم". 



قدم لنا ماركيز بأسلوب يجمع بين الشعر والموسيقى والصورة السينمائية الحية عالم الطغاة الدموي، وجعلنا نلمس الطاغية المستبد بأعيننا، واصطحبنا إلى "الغرف السرية في قصور أولئك الأباطرة الدمويين ليشهدنا على كل ما حدث وهو يقهقه من الفاجعة حد الاختناق، هو زمن الأبدية الهائل، منذ طفولة البطريرك إلى توليه السلطة"... وكما القصة التي عرضها ماركيز في روايته، هناك عشرات الطغاة الذين وقفوا على رمال الصحراء العربية، وكأن ماركيز يحكي كيفية ظهور الحاكم في بلادنا، فحينما يتولى السلطة، يذبح شعبه ويقيم لهم المجازر ويقذفهم بالقنابل، ويصل إلى ذروة جبروته فيصرخ: "عاش أنا ويموت ضحاياي، ويكتبها خلسة على جدران المراحيض العمومية في زوايا مملكته البائسة، ويطربه سماعها من أفواه الجوعى والمتسكعين والمشلولين والمتسولين على درجات سلم القصر الرئاسي والبرصى تحت أشجار الورد: -انثر على رؤوسنا ملح العافية"، ومن ثم ينتهي مظهر المستبد ليظهر بعده مستبد آخر، وكأن كلماته تردد لحن شعر أمل دنقل حين قال:
"لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..
ودمعة سدى!"
لكن قبل أن يرتكب هذا الحاكم الدموي كل هذا العنف ويصل إلى ذلك الجبروت والتسلط والاستبداد، كيف يخدع الحاكم شعبه، ليتسلق السلطة فوق أكتافهم وهم يهتفون بحياته؟ وما الحيل النفسية والتكتيكات التي يستخدمها المستبد لإطالة حكمه، وإخضاع شعبه وإرهابهم، ليركع له الجميع راغبين أو مضطرين أو مجبورين؟

الاستبداد مصدر الكوارث
"وحديٌ أنا أيها الشعب، أعمل وحدي
ووحدي أسن القوانين
وحدي أحول مجرى النـهر..
أفكر وحدي أقرر وحدي.. فما من وزارة
تساعدني في إدارة أسراركم
ليسر لي نائب لشئون الكناية والاستعارة
ولا مستشار لفك طلاسم أحلامكم عندما تحلمون"
(محمود درويش، من قصيدة "خطب الديكتاتور الموزونة")
قد تبدو كلمتا "الاستبداد والطغيان" للوهلة الأولى مترادفتين، لكنهما تضعان مقياسا لما يتعرض له شعب تحت حكم فرد واحد لا يشاركه أحد في سلطته، ففي قاموس لسان العرب لابن منظور يرد تحت مصدر "بدد" تعبير: استبد فلان بكذا أي انفرد به. واستبد بالأمر أي يستبد به استبدادا أي انفرد به دون غيره، واستبد برأيه أي تفرد به.
أما عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المشهور "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" فيقدم تعريفا آخر للاستبداد يتجاوز التعريف اللغوي ليخترق نفسية المستبد وعقله، حيث يقول: "الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة"، أما على الصعيد السياسي "فالمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم"، كما يقول إن الاستبداد "هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة"، وإنه "صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين".


لكن الكواكبي يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أعدّ وصفة شاملة للاستبداد يشرح داخلها كيف ينمو المستبد وكيف ينتشر الاستبداد في المجتمع كالسرطان بالجسد، فيعدد الكواكبي فئات أربعة من الاستبداد: استبداد الأصلاء من العصبيات، وهو استبداد القبيلة أو العائلة أو المجتمع بشكل عام، واستبداد المتعممين الذين يتحكمون باسم سلطة الدين بعقول الناس وأفئدتهم، واستبداد المال وما يجره من ظلم اجتماعي يكون محميا بقلاع الاستبداد السياسي ضمن التحالف التقليدي ما بين السلطة ورأس المال. 
ويضع الكواكبي على رأسها الاستبداد السياسي، وهو الأخطر في رأيه والأكثر ضررا، "إذ يجعل الإنسان أشقى ذوي الحياة". .
لكن يعود الدكتور مصطفى حجازي ليشرح أن كل هذه الفئات من الاستبداد على تنوعها "تنبعث من جوهر واحد هو الاستبداد ذاته بوصفه نظاما شاملا يتجلى في مظاهر عدة، ليصبح أسلوبا للحكم وأسلوبا للعيش" .، حيث يُعدّ الاستبداد السياسي وما يتبعه من منظومة استبدادية تتحكم في المجتمع مصدر عديد من الكوارث السياسية والاجتماعية، والانحرافات والتدني الأخلاقي، لكن الكارثة الأفجع هي ظهور الطغيان.
بين الاستبداد السياسي والطغيان
"انقضّت العقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، فحطمت شباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها، وحركت الزمن الراكد في الداخل برفيف أجنحتها، ومع بزوغ شمس يوم الاثنين استيقظت المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة، نسمة ميت عظيم ورفعة متعفنة، عندئذ فقط تجرأنا على الدخول دون مناطحة الجدران الحصينة المنزوعة الملاط، شاهدنا مركز الحراسة تعمّه الفوضى بعد هرب الحراس، والأسلحة المهجورة في الخزائن، دفعنا بابا جانبيا ينفتح على مكتب مخفي في الجدار، وهناك رأيناه، هو ببذلته الكتانية الخالية من الشارات، ولفافات ساقيه ومهمازه الذهبي على الكاحل الأيسر، كان أكبر سنا من كل الرجال ومن كل الحيوانات القديمة في الأرض وفي الماء، كان ممددا على الأرض وساعده الأيمن منثنيا تحت رأسه على هيئة وسادة مثلما تعوّد أن ينام كل ليالي حياته الطويلة. 
أدركنا أن من المستحيل علينا التعرف إليه حتى وإن لم تكن العقبان قد نقرت وجهه، ذلك إن أحدا منا لم يسبق له أن رآه قط، رغم إن صورته الجانبية كانت مرسومة على وجه العملة وقفاها وعلى طوابع البريد والمنحوتات الحجرية، كنا نعلم بأنها لم تكن سوى نسخ منسوخة لرسوم سابقة مشوهة في زمن النجم المذنب عندما كان آباؤنا يعرفون من يكون لأنهم استمعوا لروايات آبائهم".
(خريف البطريرك، غارسيا ماركيز)
هكذا يموت البطريرك في رائعة ماركيز، وما من نهاية سعيدة تسعف الشعب البائس إلا موت الطاغية. لكن الغريب أن بطريرك ماركيز يظل حيا على لسان الرواة على مدى فصول الرواية! فيستمر اللحن الجنائزي بالتعاقب، حيث يتولى خليفته الحكم، وهو لا يختلف كثيرا عنه، فهو نسخة بديلة لكنها أكثر شراسة، حيث هو ليس مجرد مستبد، بل طاغية.
حيث يذهب ياسين الحاج صالح إلى أن الطغيان هو أعلى درجات الاستبداد وأشدها بطشا ومباشرة وفجاجة، "فالاستبداد هو تفرط وتسلط، أما الطغيان فيقوم على سلب السلطة بالقوة، والبغي والظلم والفساد بما يجاوز الحد ويصل إلى مجاورة الكفر" .
ويوضح حجازي أن "الاستبداد يجنح إلى الطغيان ولو بشكل خفي في بعض الحالات التي تتهدد فيها السلطة. هنا يضرب الاستبداد مصادر التهديد بدون هوادة متحولا إلى حالة الطغيان".
ومثل الفرق بين حكم مبارك في مصر وحكم السيسي، يذهب ياسين الحاج صالح في تمييزه بين الاستبداد والطغيان إلى أن "الاستبداد يكمم الأفواه، ويقمع المعارضة، إلا أنه يرتضي من الناس الصمت. 
حتى لو دمر خصومه، أو سجنهم، إلا أن همه الأول يبقى مركزا على الحفاظ على زمام السلطة. 
وبعيدا عن منازعته سلطته يترك الناس يفعلون ما يشاؤون، أو هو يترك الناس يقولون ما يشاؤون على أن يفعل هو ما يشاء في ممارسته للسلطة".
"الاستبداد يترك للناس حيزا مدنيا كبيرا للتحرك، ولا يحاول أن يدمجهم في آلته ما داموا يسلمون له بسلطانه. 
إنه يتفرد بالحكم والسلطة مع بقاء المحكومين متميزين عن الحاكم، ومستقلين عنه في شؤونهم المدنية.
 كما أن الاستبداد يحرص عموما على تحصين تفرده بمختلف مظاهر وآليات الحياة السياسية المعروفة من انتخابات ومجالس تمثيلية ومجالس محلية وهيئات مجتمع مدني. 
إلا أن لكل هذه حدودها في القول والتحرك والممارسة، مما يتمثل في كون السلطة وتفردها الحقيقي على مستوى السياسة والحكم خطا أحمر غير قابل للتجاوز أو حتى التساؤل... فالتحكم قائم وبدون تراخٍ أو هوادة من خلال أنظمة المخابرات والبوليس السياسي ذات الفاعلية العالية التي تستوعب كل ما يجري في المجتمع ضمن شبكة معرفتها ومتابعتها وضبطها المحكم".
فلو كان للاستبداد خطوطه الحمراء التي لا يسمح بتجاوزها فإن الطغيان "هو نقيض هذه اللعبة. 
إنه السلطة المحضة، ليس على مستوى الحكم والسياسة وحدهما، بل على مستوى المجتمع ذاته. 
الطاغية باختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسسات وهيئات وناس. 
إنه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئا خارجه. قوته وسطوته تتغذى من عملية الالتهام المستمرة هذه حتى ليصبح هو البلد والبلد هو. فلا يترك الطغيان أصلا شأنا خاصا للناس، فهو مختص بشؤونهم جميعا يفعل بها ما يشاء، وعليهم أن يتقبلوا مشيئته قانونا لوجودهم، فلا يختلون بشأن من شؤونهم".
ويعقّب مصطفى حجازي على ما ذهب إليه ياسين الحاج صالح قائلا: "همّ الطغيان الأول ليس ردع خصومه، بل تدميرهم وإفنائهم. إنه لا يكتفي إذا بالسيطرة على الناس من الخارج، بل يريد السيطرة عليهم من الداخل، من داخل ذواتهم على مستوى السلوك والفكر والإرادة وحتى الوعي والكيان. المثل الأعلى للطغيان هو أن يحل في كل إنسان وكل مكان. إنه انحلال للشعب في سلطة الطاغية، بدل أن تنحل السلطة في الشعب، فلا يطيق الطاغية أن يترك شيئا خارج كيانه".
فهو يُكره الناس على الضحك في أفراحه والبكاء في أحزانه والرقص في أعياده، فالحياة تحت حكمه برنامج للاحتفال الدائم، لذلك فليس هناك شيء حقيقي في ظل الطغيان، "لا الفرح ولا الحزن ولا العمل ولا التمتع، كل شيء احتفال، وكل تلقائية تعتبر بابا للشر" (9)، وهذا ما يجعل البحث في أساليب وأدوات سيطرة الاستبداد والطغيان على حياة وعقول الناس مهمة.

نفسية الاستبداد والطغيان.. الأسد ليس حيوانا
"يحكمنا هنا الأمواتُ .. والسيَّافُ مسرورُ
ملايينٌ من السنواتِ
لا شمسٌ ولا نورٌ
بأيدينا مساميرُ
وأرجلنا مساميرُ
وفوقَ رقابنا سيفٌ
رهيفُ الحدِّ مسعورُ
وفوقَ فراشنا عبدٌ
قبيحُ الوجه مجدورُ
من النهدين يصلبنا
وبالكرباج يجلدنا"
(نزار قباني، من قصيدة "السياف مسرور")

في مقابلة مع محطة فوكس نيوز، قال ترامب عند سؤاله عن بشار الأسد: "إن بوتين يدعم شخصا شريرا بحق، أظنه سيئا جدا سواء بالنسبة لروسيا، أو للبشرية، والعالم أجمع"، وأضاف: "عندما تُلقي غازا أو قنابل أو براميل متفجرة، أن تُلقي تلك البراميل الضخمة المعبأة بالديناميت وسط مجموعة من الناس ثم تجد الأطفال بدون أذرع أو أرجل أو أوجه فهذا -بكل إنصاف- هذا حيوان". (10)


لكن يبدو أن ترامب قد ظلم الحيوان بوصفه هذا، فحسب مصطفى حجازي عن "سيكولوجية الطغيان" أو نفسية الطاغية، فتتمثل هذه السيكولوجية في ثلاثة عناصر: نزوة السطوة، والنرجسية، والأنا المثالي التي يقوم بها التحليل النفسي.
لكن قبل توصيف عناصر نفسية الطغيان يفرّق حجازي بين عناصر السطوة في واقع الإنسان وواقع الحيوان. 
فالكائنات الحية محكومة في سلوكها ونمط حياتها وعلاقتها ببني جنسها، بقانونها الوراثي الذي يجعل منها كائنات ثابتة في تصرفاتها وردود أفعالها وأنماط علاقاتها.
فالعدوانية عند الحيوان محكومة بشروط محددة لا تتعداها، أبرزها أربعة: الصراع على الغذاء، الصراع على التزاوج، حماية الصغار، الدفاع عن مجالها الحيوي، وخارج حدود هذه الحالات لا تمارس العدوانية إلا بشكل محدود واستثنائي. 
أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي يمارس الإبادة ضد بني جنسه، وهو الوحيد الذي ينخرط في عدوانية مفتوحة تؤدي إلى كوارث كيانية، حيث يتفنن الإنسان دون ما عداه من الكائنات الحية في ألوان عدوانيته وموضوعاتها ومستوياتها.
وفي حين تُقيم الأجناس الحية فيما بينها مرتبية محددة تنشأ عن صراع القوى في سلوكات تتفاوت في درجة خطورتها، إنما لا تعدو معظم الأحيان أن تكون مجابهات شكلية لفرض السيطرة وقيام مرتبية القوة، وعندها يقوم القوي الذي فرض سيطرته بحماية من هم أضعف منه، يقوم الإنسان باستعباد بني جنسه واستغلالهم، فهو الكائن الحي الوحيد الذي يستعبد بني جنسه.
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتجاوز نزوة السيطرة لديه الحاجة إلى التحكم، وتتحول إلى نزوة السطوة وهي أول عنصر في عناصر نفسية الطغيان.
  "والسطوة تهدف إلى الاستحواذ على الموضوع والسيطرة عليه بالقوة"، وهي تتجلى حسب لابلانش وبونتاليس المحللين النفسيين في "نزعة قسوة لا تهدف إلى إيلام الآخرين، إنما بكل بساطة لا تدخله في الحسبان".


؛؛؛؛ مصـــر الـيـــوم ؛؛؛؛


ليست هناك تعليقات: