الجمعة، 18 ديسمبر 2015

عيـون القـلب - الوطن الأجمل هو الوطن المستحيل ..


من أساطير الحب العذري


عندما نشعر أن غربتنا قسرية،ولا سبيل لعودة قريبة، 
 .فالوطن الأجمل هو الوطن المستحيل. 
 نحن المغتربين، عن أوطاننا، نرسم لة صورة في قلوبنا 
 ليست موجودة في الواقع، نجعلها أجمل من واقعها، 
ونرى الشمس على ترابها
 أجمل من الشمس على تراب الآخرين

رأى عبد الملك بن مروان (أو هذا ما تقوله الحكاية) بثينة، فقال لها: ماذا رأى فيك جميل، حتى أحبك وقال فيك الأشعـــــــار؟
فقالت له: ما رأى فيك الناس حتى ولّوك أمرهم يا أمير المؤمنين. فضحك، وقضى لها حاجاتها.
ثم إنه رأى جميل، فقال له قولاً شبيهاً : قد رأينا بثينة، فلم نر فيها المرأة التي تصفها في شعرك، فما رأيت فيها حتى أحببتها هذا الحب؟
فقال جميل: رأيتها بعينين ليستا في رأسك، والله إني لأرى الشمس على بيتها أجمل من الشمس على بيت جارتهـــــا.
الحكاية من أساطير الحب العذري، وهي ربما لم تحدث فعلاً، وربما قيلت في ما بعد، ونسبت لشخوصها، دلالة على أثر الحب ومعناه.
وهي، في الحقيقة، دلالة صحيحة وحقيقية، فهذا حالنا، نحن المغتربين، عن أوطاننا، نرسم لها صورة في قلوبنا ليست موجودة في الواقع، نجعلها أجمل من واقعها، ونرى الشمس على ترابها أجمل من الشمس على تراب الآخرين، نراها بعينين ليستا في رؤوس الآخرين، وليستا في رؤوسنا نحن حتى، هما عينان موجودتان في قلوبنا وأرواحنا فقط. فالأوطان، كما نعرف حين نصبح مغتربين، ليست أماكن نعيش فيها، بل أماكن تعيش فينا.
لذلك، يصبح في وسعنا أن نصوغها كما نريد، ونرسم لها الصورة التي نريد، ليس من المهم أن تكون أماكن جميلة، فنحن نراها كذلك، وليس ذا معنى أن يكون ناسها طيبين، فنحن، بعد الاغتراب، نسينا كل عيوبهم، واحتفظنا بالجانب المشرق منهم، فهم في ذاكرتنا الطيبون الجميلون.
فبعد مرور السنوات على ابتعادك عن وطنك، لن تذكر بالتأكيد ذلك السائق الأرعن الذي جنح بسيارته باتجاهك، وكاد يودي بك في الوادي، بل ستتذكّر فقط كم كان ذلك الوادي جميلاً، وكم كانت الأشجار الممتدة فيه خضراء ونضرة، هي فقط بضعة ملايين من الحشرات المزعجة، تلك التفاصيل الصغيرة التي مسحتها من ذاكرتك.
كم كان زملاؤك في العمل لطيفين وودودين، أما تلك فتفاصيل صغيرة تمحوها الغربة، وتجعلها بلا معنى، أقصد دسائسهم الصغيرة، وتحريضهم عليك، وتملّقهم المدير على حسابك وحساب سمعتك، وكم كان عملك لطيفاً وممتعاً، على الرغم من أنك امتهنت كرامتك، حتى حصلت عليه، وعانيت المرّ في كل صباح، وإن لم تقصده.
في الغربة، تحن إلى بيتك الجميل، تراه أكبر وأكثر إضاءة وأفضل تهوية ممّا هو في الواقع، وترى جيرانك أكثر لهفة ومحبة، لن تهتم لسنوات التعب التي قضيتها في بنائه، وتعقيدات البلدية وورش البناء، والألف جرعة سم التي اجترعتها حتى حصلت عليه. ستستعيد ذاكرتك فقط لحظة عذبة عشتها فيه، لحظة أمان ربما شعرت بها في ليلة عاصفة، أو بعد مشكلة في مكان آخر.
تصيبنا لحظات حنين طائشة، تنغرف فيها قلوبنا شوقاً لأشياء وتفاصيل وأشخاص لم يكونوا يعنون لنا شيئاً في حياتنا السابقة في أوطاننا، وربما كنا لا نحبهم، وربما لم يكونوا مهمين. في الغربة يصبح لكل تفصيل معنى آخر، يصبح أشبه باللوثة، نعيد رسمه وتشكيله كما نشاء، لا كما هو.
وتزداد هذه الحالة تفاقماً، عندما نشعر أن غربتنا قسرية، أو أن لا سبيل لعودة قريبة، فالوطن الأجمل هو الوطن المستحيل. 
وحين أقول نحن المغتربين، أقصد نحن القادمين من أوطان مستحيلة، وكل أوطان ذاك الشرق باتت مستحيلة.
رأى جميل بثينة بعينين ليستا في رأس أحد، ونحن نرى أوطاننا بعينين ليستا موجودتين إلا في القلب، وحين غنت نجاة الصغيرة لعيون القلب من قصيدة عبد الرحمن الأبنودي، قالت عنها:
"عيون القلب سهرانة ما بتنامش".
ولذلك، شوقنا النابع من عيون القلب لا ينام، ويمتلك القدرة دائماً على رؤية الصورة تلو الصورة، والتفصيل تلو التفصيل.
ومن تجربة آلاف وملايين المغتربين، هذا شوق لا تطفئه الأيام، ولا يطويه النسيان، وهو قادر على البقاء مستيقظاً، ويكبر يوماً بعد يوم.
لست متأكدة من أن مغترباً سيكون، بعد سنوات طويلة من الاغتراب، قادراً على العودة إلى حياته القديمة، لكني أعرف أن كل إنسان على سطح الأرض يحنّ، بشكل واعٍ، أو غير واع، لرحم أمه، على الرغم من أنه، في أبسط قوانين العلم، حيّز غير ملائم للعيش.




ليست هناك تعليقات: