الخميس، 25 سبتمبر 2014

في سيناء حرب قذرة لا تكشف عن اسمها.



جيل جديد من المقاتلين
 يحركهم تعطشهم للانتقام أكثر من القناعات الأيديولوجية.


;لومند ديبلوماتيك منذ 31 عامًا، قتل عسكري مصري محمد يوسف طبل على أبواب مدينة الشيخ زويد، 30 كيلومترًا شرق العريش في سيناء. كان موظفًا لدى جهة رسمية ولم يمرّ موته مرور الكرام؛ إذ تعاطف الكثيرون مع عائلته ورفاقه مما ساعد على احتواء غضبهم ولملمة جراحهم، في حين أن آلاف الضحايا المجهولين وذويهم لم يحصلوا على فرصة مماثلة. 
نشأ طبل في وسط حضري متعلم بالعريش، إلّا أن سكّان هذه المنطقة الحدودية مع إسرائيل بالأساس بدوا مهمشين ومشوهي السيرة، لم يحملوا السلاح إلا قسرًا وإكراهًا كضحايا لسياسة الأرض المحروقة.
مقاومة إسرائيل منذ 1948
في يناير 2011، عند اندلاع “الثورة” في كافة أنحاء مصر، لم تهدأ العريش ـ عاصمة محافظة شمال سيناء ـ، بل إن ردة الفعل على مقتل أول متظاهر في الساحة الرئيسة للشيخ زويد ـمدينة بدوية قريبةـ كانت عنيفة جدًّا؛ ممّا أدى إلى انسحاب المدافعين عن الحقوق الإنسانية والسياسية في حين انكبّت النسوة على تكسير الحجارة ليقذفها الأطفال وأخرج الرجال أسلحتهم (بنادق كلاشنكوف وقاذفات صواريخ).
إنّ العقود الثلاثة السابقة وما شهدته من ظلم وقهر وذلّ وأكاذيب من الحكومة لم تغذ عطش السيناويين للانتقام كما آخر سنوات من حكم الرئيس حسني مبارك. 
إذ، في إطار الرد على أول موجة كبرى من الهجمات الإرهابية جنوب سيناء (2004-2005)، عانى سكان المنطقة من قمع وحشي وشهدنا تصاعدًا غير مسبوق لوتيرة العنف، خاصة ضد النساء، من قبل الجهات الأمنية في رفح والشيخ زويد، فاق الرقم القياسي المحزن لجيش الاحتلال الإسرائيلي (1967-1982). هذا العنف زاد من عزم الجماعات المسلحة صلابة، خاصة الميليشيات السلفية والجهادية كأنصار بيت المقدس.
وتعود مقاومة إسرائيل على أسس طائفية إلى 1948، عندما أنشأ الإخوان المسلمون مخيمات تكوين عسكري للمتطوعين في العريش وسد الروافعة. 
إلا أن حضور الإخوان المسلمين في سيناء تراجع، حتى اضمحل تمامًا بعد سنتين من سيطرة جمال عبد الناصر والضباط الأحرار على الحكم في القاهرة، ومع منع تنظيمهم ونفي عدد من قياداتهم، خاصة في الأردن.
في الوقت نفسه، أنشأ وريث طريقة الشيخ أبي عماد الغزاوي ، الشيخ عيد أبو جرير، أوّل مجموعة صوفية. وظهر تيار الجهاد الصوفي عند أزمة السويس والحرب التي تلتها في 1956. والذي تعاون فيما بعد مع الجيش المصري وجهاز استخباراته في المعركة ضد إسرائيل التي، عند نهاية الصراع، احتلت المنطقة ـ وكذلك قطاع غزة ـ حتى مارس 1957. بعض قيادات هذه المجموعة ومقاتليها السابقين تمّ تكريمهم رسميًّا من الدولة مثل الشيخ حسن خال من قرية الجورة التي تبعد 7 كيلومترات عن الشيخ زويد جنوبًا.

ورغم الروابط التاريخية الوثيقة بين الصوفية والجيش النظامي، يعتبر أهالي سيناء، اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، التي وقعها أنور السادات ومناحيم بيغن سنة 1979 (بعد مفاوضات كامب دايفد سنة 1978) خيانة ولا تزال إسرائيل عدوهم والخطاب الديني الذي لا يفصل الصهيونية عن اليهودية يسلط الضوء على الخطر المستمر الذي يمثله هذا العدو.
وخلال الفترة الممتدة بين 2001 و2010، لم يتمكن تنظيم أسامة بن لادن من إنشاء خلية في مصر ـ رغم أنها البلد الأمّ لزعيم تنظيم القاعدة الحالي، أيمن الظواهري ـ، إلّا في سنة 2006 وتولّي أحمد الحكايمة زعامة تنظيم القاعدة في أرض الكنانة؛ بيد أنه قتل بعد سنتين. وفي يونيو 2010، قام مجهولون، في سيناء، لأوّل مرة بتفجير أنبوب لنقل الغاز الطبيعي المصري من مصر إلى إسرائيل، ثمّ تكررت هذه العملية، بعد سقوط حسني مبارك 13 مرّة، في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة. لتعلن الحكومة، في أبريل 2012، عن إلغاء تعاقدها لتصدير الغاز؛ وهو قرار يتوافق مع قرار قضائي ينص على أن العقد يقوّض السيادة الوطنية ومصالح مصر

آنذاك، ظهر تنظيم أنصار المقدس للعلن، لأول مرة، عبر شريط مصور عنونه بـ “إن عدتم، عدنا”؛ أي “إن استأنفتم تصدير الغاز، سنعود”، أعلنَ فيه صراحة عن مساندته للقاعدة وأنّ التنظيم يعترف به.
الجنازة المهيبة، وفقًا للطقوس القبلية، لواحد من الجهاديين البدو، تمّ استهدافه بطائرة بدون طيار إسرائيلية، يوم 9 آب/أغسطس، كانت شاهدًا على التعاطف الذي يتمتع به أنصار بيت المقدس، إلّا أن شعبيتهم وشعبية من يماثلهم من الجماعات تراجعت بعد استهدافهم للجيش النظامي المصري.
وفي تحدٍّ لسلطات القاهرة، رحّب سكان المنطقة بالهجمات التي طالت أهدافًا إسرائيلية خلف الحدود. إذ اعتبروا أن ما يحاك سرّا بين مبارك والإسرائليين حال دون تنمية شبه الجزيرة. وتعتقل إسرائيل العشرات من أبناء القبائل الحدودية، تمّ توقيفهم ويتمّ اعتبارهم دائمًا “أسرى حرب”. رغم ذلك، يخشى أن تتحوّل مقاومة الكيان العبري إلى انتفاضة مسلحة ضد الدولة المصرية.
هذه الخطوة أعطت لإسرائيل ذريعة بأن تتخذّ ما تراه مناسبًا من إجراءات. ففي آب/ أغسطس، دخل كوموندوس الأراضي المصرية لاغتيال إبراهيم عويضة، قيادي بدوي في أنصار بيت المقدس، في قرية خريزة، على بعد 15 كيلومترًا غرب الحدود.
وفي مايو 2013، تعاون عملاء محليون مع الإسرائليين لقتل مهدي أبي دراع في قرية جوز أبو رعد قرب رفح، شمال سيناء. ثم في أغسطس من السنة نفسها، لم تتردد إسرائيل في إحراج الجيش المصري بإعلانها عن مجزرة نفذتها طائرة بدون طيار، في العجراء، راح ضحيتها مجموعة جهاديين كانوا يستعدون لإطلاق صواريخ أرض ـ أرض على أراضيها.
... قرية مدمرة انتقامًا ...
كردٍّ على هذا التصعيد، قامَ الجيشُ المصريُّ، يوم 10 آب/أغسطس 2013، بمهاجمة قريتين يعيشون فيها جهاديون من أنصار بيت المقدس. ولأول مرة منذ 1967، دخلت طائرة هيليكوبتر مصرية المنطقة (ج) لتقصف قريتي “التومة” و”المقاطعة”. وهنا ندرك الدخول في حرب حقيقية.
لم يكن للإخوان المسلمين أي وجود منظّم شرق العريش ولم يتمكنوا من خلق روابط مع الجماعات المسلحة في سيناء طيلة فترة حكم الرئيس محمد مرسي (يونيو 2012 ـ يوليو 2013). لكن ـ وعلى الرغم من العداء الأيديولوجي تجاههم ـ، لم يتردد “أنصار بيت المقدس” من إظهار تضامنه معهم في إطار ما يواجهونه من قمع عنيف منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 ولم تخلو تصريحاته، المليئة بالحجج الدينية، من اتهام الجيش بالفشل في أداء واجباته تجاه الأمة، وأكد على أنه يعامل عناصر الجيش جميعهم ـ من المجندين إلى أصحاب الرتب العليا ـ ككفار وعلى توسيع نطاق عملياته، خارج سيناء لتشمل أهدافًا في مناطق مختلفة من مصر.

ثم، لاستيائه من العنف وجرائم الحرب المرتكبة خلال العمليات العسكرية، التي بدأت يوم 7 سبتمبر 2013 والمستمرّة إلى الآن، جنّد “أنصار بيت المقدس” المزيد من المقاتلين؛ إلّا أن سيناريو توسيع نطاق عملياته في باقي أنحاء مصر لن يكون الأسوأ، ضرورة، بل تقوية الروابط ـ غير واضحة المعالم حتى الآن ـ بين التنظيم والجماعات الجهادية في سوريا.
العنف غير المسبوق الذي تلى عزل محمد مرسي استفز مقاتلي أنصار بيت المقدس؛ فالهجمات التي نفّذت ضد الإخوان وغيرهم من المتظاهرين الإسلاميين في شهر رمضان 2013 (ساعة الصلاة في المساجد) والشكوك المستمرّة التي تحوم حول المتدينين، صوّرت لهم أن ما يحدث ليس سوى حرب على الإسلام.
لتأتي محاولة اغتيال وزير الداخلية في القاهرة، في سبتمبر 2013، والتي مثّلت نقطة تحوّل؛ ففي السابق يستهدف “أنصار بيت المقدس” الجيش وقوات الشرطة، إلّا أنه انتقل إلى عمليات إرهابية بالمعنى الدقيق؛ إذ إن أولئك الذين يخططون للعمليات لا يبالون بالخسائر التي قد تطال المدنين. وفي أكتوبر 2013، قام جهاديٌّ من أنصار بيت المقدس بتفجير شاحنة مفخخة أمام مبنى مديرية أمن جنوب سيناء ثم تم تفجير مكتب الأمن العسكري لإقليم الإسماعيلية. 
بعد شهر من هذه الحادثة، وإثر تفجير مبنى الأمن بالمنصورة، عاصمة الدقهلية، صنّفت الحكومة الانتقالية “أنصار بيت المقدس” كمنظمةٍ إرهابيّة.

أمّا الانتهاكات التي ترتكبها قوات الجيش النظامي ضد المدنين تبقى دون عقاب؛ ففي سيناء، كلّ شيء مباح بما ذلك تدمير المنازل دون إذن القبائل وحرق الأكواخ التي تأوي الأشد فقرًا والمسنّين واقتلاع أشجار الزيتون وإطلاق النار على بعض المنازل وقتل النساء والأطفال والاعتقال العشوائي لبعض المشتبه فيهم وغلق العشرات من الأكشاك والمحلات والتهجير القصري والاختفاء المنظم، وكذلك التعدّي على الصحفيين والباحثين ـ بما في ذلك كاتب هذه السطور.
بعد أربعة أشهر من هذه الحرب المفتوحة، أعطى “أنصار بيت المقدس” دليلًا على حيويته من خلال ثلاث عمليات نوعية نفذت في يناير 2014: الأولى بإطلاق صاروخ جراد على إيلات يوم 21 يناير. والثانية استهدفت مديرية الأمن في وسط القاهرة، بعد يوم من تحذير وزير الداخلية كلّ مَن يحاول الاحتفال بـ”ثورة 25 يناير” أمام مركز شرطة. 
والثالثة ـ والتي لاقت انتشارًا إعلاميًّا واسعًا ـ إسقاط طائرة عسكرية مصرية، يوم 25 يناير ومقتل طاقمها. وفي ردّ انتقامي على هذا، قام عسكريون غاضبون بتدمير قرية اللفيتات، كما شنّوا غارات ليلية على مدينة البرث.
خلال هذه الأشهر الطويلة، نجح الجيش المصري في فرض تعتيم إعلامي على كلّ ما يحدث في شمال سيناء؛ إذ تمّ الاعتداء على الصحفيين والنشطاء واعتقالهم وتعذيبهم أو ملاحقتهم ممّا اضطرهم للاختفاء، أما الصحفيون الأجانب فقد تم ترحيلهم. كما يتمّ قطع الاتصالات يوميًا وفرض حظر تجوّل ساعة قبل الغروب.
كل هذا ـ بما في ذلك العقاب الجماعي والتعسفي للسكان ـ لم يمنع “أنصار بيت المقدس” من إطلاق المزيد من الصواريخ على إسرائيل، خلال الحرب على غزة في يوليو ـ أغسطس 2014، إذ أطلق صواريخَ من المنطقة ذاتها حيث قامت طائرة بدون طيار قبل سنة بقتل أربعة جهاديين.
وعندما نجح الجيش المصري في منع إطلاق صواريخ مرة ثانية على إسرائيل، يوم 13 يوليو 2014، استهدف “أنصار بيت المقدس” معسكرًا للجيش شرقي العريش. فأصاب الصاروخ الأول الهدف؛ إلّا أنّ الصاروخ الثاني قد سقط على المنازل المجاورة؛ ممّا أسفر عن مقتل 7 مدنين من بينهم طفلة عمرها 10 سنوات، وعن إصابة 9 آخرين بجروح.
اليوم، ابتعدَ تنظيمُ “أنصار بيت المقدس” عن القاعدة ليتحالف مع “الدولة الإسلامية”، وساهمت السياسة الشرسة التي تنتهجها السلطات المصرية والإسرائيلية في خلْق جيل جديد من المقاتلين، يحركهم تعطشهم للانتقام أكثر من القناعات الأيديولوجية.
-


قد يُمهل اللهُ العبادَ لحكمةٍ تخفى ويغفل عن حقيقتها الورى
قل للذي خدعته قدرةُ ظالمٍ لاتنسَ أن اللهَ يبقى الأقدرا







ليست هناك تعليقات: