في كل مرة يكرر بعضنا الملامة نفسها والعتب نفسه ويتفنن في جلد عقل الإسلاميين، وخصوصا الإخوان منهم، من معارضي وضحايا الانقلاب العسكري وخبرتهم بالسياسة ويطعن في مواقفهم وهم تحت القصف والخسف.
كل ما يحسن صنعه، هو الهجوم والقصف والاستخفاف، وتحولت السياسة عنده إلى كلمات باردة خاوية منزوعة الروح، ويستخف بالمقاطعين للانتخابات الرئاسية، وكان الأولى بهم في رأيه دعم صباحي في مواجهة السيسي، فتسعة أعشار الذكاء والنضج السياسي في المشاركة، وأما المقاطعة فعليها غضب العقلاء والحكماء من أمثاله.
وهي لعبة يعرفها من اقترب من حيل النظام وأجهزة السيطرة، حيث تُساق تدريجيا للانخراط في عملية سياسية لا تخضع لأي قواعد متعارف عليها في التداول على الحكم، مطلوب منك ملء فراغ معين أو تزيين المشهد فيما يُعرف بـ”ديمقراطية الواجهة”، يصنعها العسكر ومخابراته ويوزعون الأدوار على المشاركين فيها.
وفي لحظة تغييب الوعي، تصير قضيتك هي اللهث وراء أرقام ونسب والغرق في تفصيلات عملية سياسية غير مؤسسة على منطق وقواعد وشروط متعارف عليها، لنكرر بهذا تجارب فاشلة عقيمة، لم نحصد منها إلا الحسرة والخيبة، وأسوأ من هذا، نشارك في عملية صنعها النظام نفسه الذي ثرنا عليه ويعود بأقوى مما كان، بطشا وقمعا وإجراما، من دون أن يقدم أي تنازلات ذات معنى.
وما تعلمناه من مكر انقلابيي العسكر والثورة المضادة، وإعادة النظر في كثير من القناعات والتصورات السياسية، والوعي بأبعاد الانقلاب العابرة للحدود وارتباطاته العميقة بالكيان الصهيوني، والدمار الذي لحق بمصر، حتى صار البلد نهبا لسماسرة المال والسلاح، فما مصير كل هذا وغيره مما تفتحت عليه عقولنا وحفرته الدماء والمجازر والاعتقالات؟
أبعد أن وصل الكثيرون منا، وبتكلفة باهظة الثمن، إلى قناعة تاريخية وسياسية: أن لا مجال لإصلاح الدولة من داخلها، لأن تركيبتها أساسا قائمة على “العسكرة” والعداء للمجتمعات المدنية، بكل مكوناتها وتعبيراتها، وحتى الأنظمة شبه المدنية، إنما تدين بشرعيتها واستمرارها لعسكرها، يريد بعض المتملقين والمتلونين والجلادين وضعاف النفوس والمجتهدين (في أحسن الأحوال) أن نكرر الفشل نفسه ونعاود التجارب المرة ذاتها، ويسميه منطق وعقل ونضج؟؟
لن يقبل العسكر بسلطة مدنية مستقلة مضادة أو منافسة لحكمهم، حتى لو جئت بعقلاء العالم وأذكيائه وحكمائه، لن يحيوا عملية سياسية جوفاء ميتة، ولن يغيروا مسارها.
ماذا غير الإخوان في الجزائر (حركة حماس بقيادة الشيخ الراحل محفوظ نحناح) من حكم العسكر بعد ثلاثة عقود من المشاركة (المشروكة وغير المشروطة) في سلطته.
الآن وبعد أن خسروا الكثير الكثير في عالم السياسية: الشعبية والمصداقية والامتداد والتأثير والتماسك، انتقلوا إلى معسكر المعارضة، لكن بعد ماذا؟
ارتضى الشيخ نحناح، رحمه الله، بالعملية السياسية التي أدارتها المخابرات من وراء الستار، وكان في هذا مجتهدا متأولا: حفاظا على الدولة الجزائرية من الانهيار، غير أن الدولة انهارت فعلا لكن ليس بالمقاطعة، وإنما لأن عصابة، ممن “زكاهم” الشيخ في البداية، استولت على الحكم وأخضعت الدولة بمكوناتها لمصالحها، فما عاد ثمة فرق يُذكر بين السلطة والدولة في غياب كلي لأي تأثير للأمة وعموم الشعب؟
لم يتفطن الشيخ نحناح حينها أنه يحافظ على النظام وحكم العصابة بمشاركته وليس الدولة، فالدولة خطفوها وصارت تابعة لسلطتهم. وأتذكر مرة (وكان هذا في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 1995) عندما أبلغه بعض المشفقين عليه في السلطة أن الانتخابات ستزور لصالح مرشح العسكر آنذاك الجنرال ليامين زروال، ومع ذلك دفعوه للمشاركة فيها وترشح للرئاسة، و”أكرموه” بالمرتبة الثانية تقديرا لجهده في “الحفاظ على الدولة”.
وليس هذا معناه الانتصار للمقاطعة بمفهومها السلبي: الانسحاب من العملية والاكتفاء بالتنديد، فهذا لن يغير في المشهد شيئا، وإنما النضال السياسي والحقوقي المستمر والضغط الشعبي وفضح الجرائم والتوعية الإعلامية وإدراك أبعاد الصراع وحقيقته وتوسيع نطاق الرفض وهكذا…
هذا نظام لن يقدم تنازلات بمشاركة باهتة وإنما بضغط شعبي مؤثر ومحاصرته والتضييق عليه.
العسكر خاطف للدولة، سارق للثورة، مغتصب للحكم، قاتل لمعارضيه، عدو لمنافسيه الحقيقيين وكاره للمدنيين، لن تغيره مشاركة باهتة أو عملية سياسية جوفاء، ولا يتغير من داخله لمحدودية تأثير عقلائه، العسكر لا تهزمه إلا جموع الرافضين والثائرين من عموم الشعب، هذا ما نطقت به التجارب القديمة والحديثة.
والعملية السياسية تحت حكم العسكر ليست إلا خديعة وملهاة واستنزاف وإضفاء للشرعية وتزيين صورة خارجية وانصراف عن المعركة الحقيقية ضد خاطفي الدولة ومغتصبي السلطة وقاتلي إرادة الأمة والممكنين للصهاينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق