الخميس، 27 ديسمبر 2012

بادروا في الإصلاحات قبل أن يجرفكم طوفان الثورة القادم



الثورات العربية خلل في الرؤية أم في الأهداف
..الشعوب تقف أمام تحديات مهمة ..
 الديمقراطية أو الفوضى والخراب



بدهيا يمكن القول إنه ليس بإمكان أية ثورة أن تنجح وتصل إلى أهدافها أو بعضها دون رؤية واضحة وخطة مدروسة وتنظيم محكم وتوجيه دائم. كما أن الثورة التي لا تتضمن تلك العناصر مآلها الفوضى والتخبط ثم الفشل. لكن المتابع للكيفية التي من خلالها اندلعت ثورات الربيع العربي بدءاً من تونس ومرورا بسائر الأقطار العربية التي شهدت تلك الاحتجاجات، خصوصا في بداياتها، لا يرى أنها تحتوي على أي من تلك العناصر المشار إليها، بل ما هو أكثر إلفاتا في تلك الثورات أنها بدأت بصورة عفوية وفجائية ودون سابق تخطيط. إن عدم وجود تخطيط أو برنامج مسبق للثورات العربية في بداية انطلاقتها لا يعني بالضرورة أنها استمرت على هذا النحو.
ولو كان الأمر كذلك لما كتب لبعضها النجاح، الجزئي على الأقل، وفي فترة قصيرة جداً، كما في الحالة التونسية والمصرية مثلا. لقد اعتمدت هذه الثورات بشكل أساسي، كما يشير أحد الباحثين، على الحس العفوي كمصدر أساسي لنظرية الثورة وعلى خفّة الحركة كأسلوب أساسي لممارسة الثورة. من هنا يمكن القول إن الثورات العربية استلهمت نظرية وأسلوب الثورة من مصدر قريب منها ألا وهو الثقافة الشعبية العامة. ولقد أصبح القهر والحرمان الممزوج بالذل، بمثابة الوقود الذي فجر وأشعل شرارتها في تونس وزودها بالاستمرار والانتشار السريع والواسع والعابر أيضا لحدود تونس.
مع إن الغضب الكامن في نفوس المواطنين العرب هو أحد محركات الثورات الأساسية، إلا أن مسارها لم يكن هو الانفعال والهيجان، ولو كان الأمر كذلك لكان الطابع العام للثورات العربية هو العنف والفوضى، في حين أن نقيض ذلك السلوك هو الذي برز على السطح، لهذا أصبحت "السلمية" هي السمة الأبرز للثورات في معظم الأقطار. واستطاع الشباب الثوار الذين نزلوا إلى الميادين والساحات، واكتظت بهم، أن يحولوا الغضب الجماهيري الكامن في النفوس إلى قوة سياسية فاعلة وضاغطة، استطاعت أن تحرك عجلة التغيير في بعض الأقطار العربية، وأجبرت بعض الأنظمة الدكتاتورية على التنحي عن السلطة والتخلي عن مناصبهم، كما أوصلت رسالة بالغة الوضوح إلى العديد من الأنظمة العربية الأخرى، مؤداها أن بادروا في الإصلاحات المرجوة قبل أن يجرفكم طوفان الثورة القادم ويصبح مصيرهم كمصير نظرائهم.

صحيح أنه لم يكن على رأس الثورات العربية قيادات ملهمة، تحرك الجماهير وتوجهها الوجهة التي تريد، كما هو شأن الثورة الإسلامية في إيران 1879م مثلا، كما خلت الثورات أيضا من وجود فلاسفة ومنظرين للحراك الثوري، الذي يتناسب مع مختلف مراحل التغيير. ولم يكن خلفها أحزاب سياسية تعبئ الجماهير وتشحذ هممهم وتوجه طاقاتهم لممارسة مختلف أشكال الأعمال الثورية المطلوبة. كل تلك العناصر، وفق الأشكال التقليدية المعهودة سابقا، لم تكن موجودة.
لكن الشيء المؤكد أن هناك رؤية جماعية مشتركة للثوار، كانت تصنع في الشوارع والميادين وعبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال عملية الحوار المستمرة، وكانت هي البديل الموضوعي عن القائد الموجه والفيلسوف المنظر والحزب المنظم أيضا. ولقد أدرك المهتمون بثورات الربيع العربي جيدا أن القيادة وعمليات التوجيه والتنسيق والتنظيم والتخطيط ليست عناصر مفقودة في الثورات المعاصرة، وإن لم تكن حاضرة منذ البداية، وإنما أصبحت تلك العناصر والعمليات في صور وأشكال مختلفة عن ذي قبل. بروز هذا النمط الجديد من العمليات والعناصر، التي أضحت سمات بارزة للثوارت العربية، مرده تطور وسائل الاتصال وتقنياته، وسهولة التواصل بين الناس، إلى جانب ارتفاع منسوب الوعي السياسي والحقوقي في صفوف الشباب، الذين يمثلون الشريحة الأوسع والأكثر تأثيرا في العالم العربي.

لقد سميت الثورة في إيران قبل ثلاثة عقود، بثورة الكاسيت لأنها كانت تعتمد على الكاسيت كوسيلة أساسية للتوجيه والتعبئة والتثقيف السياسي، في حين أن ثورات الربيع العربي اعتمدت بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية التي تنقل الأحداث لحظة بلحظة، مضافا إلى الحوارات الجارية في الشوارع والميادين، ومحاكاة الثورات لبعضها البعض والأخذ منها بما يتناسب مع ظروف وخصوصيات البلد، الذي بدأ يعيش حراكاً ثورياً. وفيما يتعلق بفلسفة الثورة، فإنه يقصد بها أمران
- مجموع التصورات والأفكار والطروحات التي تتبناها الثورة، والتي تشكل في مجموعها "الرؤية".
- النهج الذي تسلكه الثورة للوصول إلى أهدافها والذي يتمثل في مجموع الأعمال الثورية، التي تعكس أفكار وتوجهات الثورة غالبا. فالرؤية التي تبنتها الثورات العربية، لم تكن معقدة أو غامضة، بل كانت في غاية البساطة والوضوح. لقد اختزلت الرؤية في مطلبين أساسين لم يختلف عليهما إثنان، الأول ضرورة انعتاق المجتمع من هيمنة الاستبداد السياسي بصورة سلمية.
ثانيهما، إقامة نظم سياسية تعزز حاكمية القانون والشراكة الشعبية وتحقق العدالة والمساواة الاجتماعية وتحترم الحريات العامة. إن سلمية الحراك الثوري وبساطة ووضوح الرؤية التي تبناها الثوار، حققا العديد من المكاسب المهمة، كان أبرزها تبني غالبية الثوار لها، مما شكل إجماعا حقيقيا حولها، إذ أصبحت هي البديل الموضوعي للقيادة الجامعة.


إلى جانب ذلك، فقد لاقت ترحيبا وقبولا دوليين، مما شكل إلحاح الثوار بالمطالبة بتجسيدها ضغطا حقيقيا على النظام السياسي الذي ثار الناس ضده. وفي الأخير وجد رأس النظام نفسه مجبراً على الاستجابة لضغط الشارع والانصياع التام لمطالب الثوار. أما بالنسبة إلى النهج الذي سلكته الثورات العربية، فلقد كان سلمياً في معظم الأقطار التي اندلعت فيها الثورات، واتضح ذلك من خلال الشعارات التي رددها المتظاهرون في مختلف الميادين والساحات، وكذلك أيضا من خلال مجموع الأعمال الثورية المدنية، التي اعتمدها المحتجون كوسائل ضغط لإسقاط الأنظمة المستبدة. أهداف الثورات:أما فيما يتعلق بأهداف الثورات العربية، فيمكن إجمالها في هدفين رئيسيين، شكلاً محل إجماع لمعظم المواطنين العرب، وهما: -
الإطاحة بالنظم الاستبدادية بكافة شخوصها، وهذا يتطلب إحداث قطيعة كلية مع الحقبة الماضية المليئة بالمآسي والحزن والألم والتخلف والفساد.
- إقامة نظم ديمقراطية حقيقية وفاعلة، تحقق ما عجزت عن تحقيقه النظم السابقة، وتلبي الحد الأدنى والمعقول من تطلعات الجماهير التي صنعت التغيير.
ومما سبق يمكن القول إن التشخيص القائل، أن الثورات العربية لا تمتلك رؤية ولا قيادة ولا برنامج عمل ولا أهداف، هو تشخيص يخلو من الموضوعية. كما أن القول إن ما جرى ويجري في العالم العربي، الذي انفجر من أقصاه إلى أقصاه، ما هو إلا مجرد تمرد وسخط وهيجان اجتماعي فوضوي وعبثي، وإن الثورات تفتقر إلى فلسفة"رؤية" أو فلاسفة ومنظرين أيضاً هو تشخيص لا يستقيم مع الواقع.

لقد أصبح الثوار الشباب في العالم العربي بإبداعاتهم الثورية ووعيهم وحواراتهم المستمرة، بمثابة الفلاسفة والمنظرين والقادة الموجهين الذين قادوا ونظروا للثورات التاريخية الكبرى التي حدثت في التاريخ الغابر، وفي أكثر من مكان. وهذه ميزة جديدة تميزت بها الثورات العربية، وهي بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتأمل.
لقد برهنت الثورات العربية على أن قابلية معظم الشعوب العربية للتعايش مع الأنظمة الاستبدادية التي ذاقت منها الأمرين قد نفدت أو إنها في طريقها للنفاد. يظهر أن شعوب المنطقة وصلت إلى قناعة مؤداها: أنه لا خيار مع تلك الأنظمة لإصلاح الأوضاع إلا الإطاحة بها، واستبدالها بنظم سياسية ديمقراطية أخرى وإن الطريق الأمثل والأنجع والأقصر إلى تحقيق ذلك الحلم، صار في نظرهم هو خيار "الثورات السلمية المدنية". إن هذه القناعة ما كان لها مجال لتتولد لدى الشعوب العربية وتنمو إلا بعد الإحباط وفشل كل وسائل ومحاولات وتجارب الإصلاح الأخرى والسبب في ذلك يعود إلى تعسف وجمود الأنظمة. كما إن التجارب القائمة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أيضاً أن لدى الشعوب العربية مخزوناً هائلاً من الاستعداد الكبير للتضحية في سبيل تغيير واقعها السيئ لأجل العيش بحرية وكرامة ورفاه.

ليست هناك تعليقات: