الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

حرصاً على الحشمة والوقار صحراويات يتغزلن في الرجال سراً


نساء صحراويات يتغزلن في الرجال سراً
 أشعار مكثفة تحيط بها أجواء من السرية والكتمان 
حرصاً على الحشمة والوقار 


صدر للناقد التشكيلي والباحث في التراث الأدبي والجمالي الحسَّاني ابراهيم الحَيْسن مؤلف جديد بعنوان "إثنوغرافيا الكلام/الشفاهية ومأثورات القول الحسَّاني"، وهو من القطع المتوسط يقع في 363 صفحة تتوسطه ملزمة للصوَّر (غير مرقمة) تجسد جوانب من مظاهر العيش في الصحراء. ينقسم هذا المؤلف الذي قدَّم له الناقد بشير القمري - إلى قسمين يهتم الأول منهما بالقول الشعري مع التركيز على الشعر التقليدي الحسَّاني بأهم عناصره ومكوناته وكذا الصّور البلاغية والأنساق الموسيقية التي تميزه، إلى جانب بحوره وأغراضه وبعض تيماته، فضلاً عن الحديث عن "التَّبْرَاعْ" بوصفه كلاما شعريا منظوما تبدعه النساء الحسَّانيات تغزُّلاً في الرجال، وذلك في أجواء خاصة تطبعها السرية والكتمان والحرص الشديد على عدم التداول والانتشار نتيجة للحشمة والوقار والرقابة التي تمارسها الطقوس والتابوهات البدوية بالصحراء.
 ويعرف الكاتب ابراهيم الحسين "التَّبْرَاعْ"، بأنه كلام منظوم تنشده الفتيات تغزُّلاً في محبيهن بعيداً عن أنظار الرجال داخل مجموعات النساء وفي مجالس معيَّنة.
مضيفا بأن هذا الكلام المنظوم يتقاطع -إلى حَدٍّ ما- مع الشعر الشفوي لنساء "البشْتُونْ" الأفغانيات المعروف باسم اللاَّنْدَايْ Landay، والكلمة تعني حَرفياً "الوجيز" و"المقتضب"، وهو نص شعري مكثف وقصير جداً، يجد هويته الجمالية في فعل الوجَازَة والاقتضاب، اقتصاد الكلمات، والاكتفاء غالباً بسطرين شعريين بدون قَوَافٍ إجبارية دائماً، لكن مع صرامة في التقطيع الداخلي. ويقسم الكاتب هذا الشعر إلى قسمين، قديم يجري في شعاب الأودية وعلى الكثبان الرملية وفوق الربى وبجوار المضارب، يمتاز بالحشمة وتطغى عليه الرمزية واللغز، وإلى جديد وظف ما طرأ على الحياة من مواقف وتصرّفات يمتاز بالوضوح والبساطة ويتضمَّن تعابير معاصرة وقضايا راهنة. ونظراً لاعتبارات جمالية حسب الكاتب، فإن الكثيرات يفضلن التَّبْرَاعْ القديم، أما الفتيات المعاصرات فيُحبذن الجديد منه.
وفي علاقة بالتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، عَرَفَ التَّبْرَاعْ اتجاهاً عند بعض الشواعر اللائي أصبحن يَتَغَنَّيْنَ برجال بعيدين عن المجتمع الذي ينتمين إليه، كالرؤساء والزعماء السياسيين وأبطال المسلسلات ونجوم الرياضة والسينما والتلفزيون. ويورد الكاتب في هذا السياق نموذجا لإحداهن أُغْرِمَت ببطل المسلسل المكسيكي المدبلج "أَنْتَ أَوْ لاَ أَحَد" تنشده قائلة: مُولاَنَ غُــونْـــزَالُ لاَ غَــابْ بَالِي عَنْ بَالُ ولأن موضوعه الحب والعواطف، فإن التَّبْرَاعْ ورغم أنه "يُقال في الخفاء بعيدا عن الأقارب أو في حضور المغنِّيين وأرباب الموسيقى، فإن هذا لم يمنعه لكي لا ينتشر ويشيع، ويصبح بالتالي في أفواه الناس.
ويؤكد الحيسن في هذا السياق، أن هذه السرية التي أحاطت بالشعر النسائي الحسَّاني لم تمنع وصول بعض روائعه التي تداولها العامة بشكل كبير فأرَّخت بالتالي لشخصيات وحقب وأحداث تمجد سيدات ورثن طقوس الشعر الفطري الخالص"، وهو ما تذهب إليه كذلك الباحثة الموريتانية سكينة اصنيب.
ولا يقتصر شعر التَّبْرَاعْ عند النساء البيضانيات على التغزُّل بالرجال فحسب، بل يمتد إلى مجالات أخرى كالتغني بالمكان، أو الطبيعة لارتباطهما بأحداث وذكريات ماضية جميلة ترسَّخت في الذاكرة وسكنت الوجدان لدرجة يصعب نسيانها.
وفي الجزء الثاني من الكتاب يتناول الكاتب مجموعة من التعبيرات النثرية الحسَّانية من أمثال شعبية وحكايات وألغاز ومعاظلات لسانية وأشكال الغناء والإنشاد والرقى والتعاويذ وعبارات التحية والوداع والتعزية، فضلاً عن التلاسن والتلاعن والكثير من المردَّدات والتقوُّلات الشعبية التي ترافق الاحتفاليات الدينية والاجتماعية وغيرها.
 وقد أبرز الناقد الحَيْسن في توطئة هذا الكتاب بأن الكلمة شأن مقدَّس لدى المجتمع الحسَّاني الصحراوي .. هي دليل هويته وعنوان وجوده، وبأن إنسان الصحراء كان يُولي اهتماماً كبيراً للقول Parole وللتقاليد المروية والمسرودة بشكل عام من خلال اعتقاده وتمسُّكه بجدوى كثرة الكلام.
 كما أبرز بأن الحياة وطبيعة العيش في الصحراء يبعثان على الكلام وتكسير الصمت بالمحادثة وتبادل الأخبار والمعلومات حول الأقارب ومضارب الخيام وأحوال المراعي والآبار والغيد.. مضيفاً بأن العيش في الصحراء قائم على الاستماع والإصغاء وليس على ملءِ البطون، كما في قولهم السائر: "لْبِيظَانْ يْعِيشُ بْوَذْنيهُمْ مَاهُ بَكْرُوشْهُمْ"، أي أن الصحراوي يعيش بأذنه لا ببطنه.
وجدير بالذكر، أن الناقد الحَيْسن كتب العديد من الأبحاث والدراسات في الفن التشكيلي وثقافة الصحراء، آخرها كتاب حول طقوس العبور عند مجتمع البيضان، وآخر بعنوان "الفن والتكنولوجيا/ مستقبل الدرس التشكيلي في عصر الميلتي ميديا"، وهو صادر هذا العام ضمن منشورات مجلة عالم التربية.




ليست هناك تعليقات: