«المصري اليوم» تثبت بالوثائق فى تحقيق استقصائى:
وزارة الداخلية استخدمت عناصر قناصة لقتل الثوار
أحد مؤسسى فرقة الإرهاب الدولى..
لا توجد وحدة قناصة مستقلة فى وزارة الداخلية،
... ولكن توجد عناصر قناصــة ...
بعكازين وقدم مفتتة العظام، قطع «محمود» الشارع غير عابئ بالنظر يمينا أو يسارا، قطعه وهو يفكر فى أيام الثورة فى التحرير، بشكل يختلف عن معظم رفاقه الثوار، محمود لا يتذكرها حيث إن تاريخه معها لا يتعدى ١٨ يوما كما كانت، بل ٦ أيام فقط، محمود لا يعرف على وجه التحديد من بتر قدمه، يقول متأثرا «أوقات بحس إن ذكرياتى ناقصة، لمّا كل الناس تتكلم عن ١٨ يوم وانا أتكلم عن ٦ أيام فقط بدأتها من مسجد مصطفى محمود ظهر يوم ٢٨ يناير، وكانت النهاية فجر اليوم السادس فوق كوبرى أكتوبر، فى نقطة مقابلة لميدان التحرير، برصاصة جاءت من بعيد من فوق بناية فندق هيلتون رمسيس، أصابتنى فى الفخذ ففتتت عظامى، وأنهت مسيرتى مع الثورة».
علامات استفهام كثيرة، لا يعرف «محمود» إجاباتها، ولا يعرف منصور عيسوى وزير الداخلية، أنه زاد الأسئلة حيرة بإجاباته التى قالها بحسم فى برنامج تليفزيونى يوم ٩ يوليو، «معندناش قناصة طبعا» قبل أن يؤكدها كإجابة فى المؤتمر الصحفى الذى عقده بوزارة الداخلية يوم ١٣ يوليو، عندما قال ردا على سؤال عن القناصة «أنا عايز حد يقول إن القناصة من وزارة الداخلية، عايز واحد فى الدنيا كلها يقول إن القناصة الموجودة فوق المبانى من وزارة الداخلية».
«هل توجد قناصة فى وزارة الداخلية؟» سؤال بسيط من ٦ كلمات يتردد يوميا فى عقل محمود عادل، الطالب فى الجامعة، والذى أصيب فى الساعات الأولى من صباح ٣ فبراير، على كوبرى أكتوبر برصاصة، فى فخذه اليمنى، تجيب عنه وثائق حصلت عليها «المصرى اليوم»، تثبت خطأ إجابة عيسوى «معندناش قناصة طبعا»، فالمجلدات الفاخرة التى حصلت عليها الجريدة، والمزينة بكلمات «سرى للغاية.. غير قابل للنشر» وتعلوها كلمات «جمهورية مصر العربية.. وزارة الداخلية.. قطاع الشؤون القانونية» على غلافها الذى يحمل صورة لبوابة الوزارة المهيبة فى شارع الشيخ ريحان، وعليها بخط أحمر «الأوامر العمومية»، تشمل أسماء ومكافآت فرق القناصة التى صرفها وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى لأوائل الفرق، وأماكن التدريبات فى معهد التدريب التخصصى للأمن المركزى بالعمليات الخاصة، ومعهد التدريب التخصصى للأمن المركزى بالقاهرة، ومعهد التدريب التخصصى للأمن المركزى بالإسكندرية، وأسيوط والإسماعيلية والشرقية، وقيم المكافآت المالية التى تحصل عليها هذه الفرق وعدد الضباط المشاركين فيها.
يبدأ اللواء السابق محمد نصار أحد مؤسسى فرقة الإرهاب الدولى، حديثه لـ«المصرى اليوم» بإجابة حاسمة «لا توجد وحدة قناصة مستقلة فى وزارة الداخلية، ولكن توجد عناصر قناصة، ولا يمكن أن تخلو الوزارة من هذه العناصر فى وحدة مكافحة الإرهاب الدولى، أو أمن الدولة» ويشرح نصار عمل القناصة «يوزع عنصران داخل كل مجموعة عمل، ولا يعمل القناصة إلا فى ثنائيات، يقتسمان العمل بينهما»، أحدهما «أوبزرفر» والآخر قناص، ويتبادلان المواقع، طوال فترة الحدث.
وبشكل عام تنص مدونة سلوك «المبادئ الأساسية حول استخدام القوة والأسلحة النارية» الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد فى العاصمة الكوبية «هافانا» من ٢٧ أغسطس إلى ٧ سبتمبر ١٩٩٠ على أن «استعمال الأسلحة النارية تدبير أقصى وينبغى بذل كل جهد ممكن لتلافى استعمال الأسلحة النارية ولاسيما ضد الأطفال، وبوجه عام لا ينبغى استعمال الأسلحة النارية إلا عندما يبدى الشخص المشتبه فى ارتكابه جرماً مقاومة مسلحة أو تعرض حياة الآخرين للخطر بطريقة أخرى، وتكون التدابير الأقل تطرفاً غير كافية لكبح جماح المشتبه به أو لإلقاء القبض عليه، وفى كل حالة يطلق فيها سلاح نارى ينبغى تقديم تقرير إلى السلطات المختصة دون إبطاء».
بدأت علامات استفهام الثائر المصاب محمود عادل، تحصل على إجابات، يصفها هو بـ«نصف الشافية» قبل أن يستطرد مضيفا علامة استفهام «أمال كانوا بيقولوا مفيش قناصة ليه؟» سؤال ربما تحمل قدم محمود المصابة إجابة عنه، فاستأذناه وذهبنا سويا إلى الدكتور أيمن فودة كبير الأطباء الشرعيين السابق، لإجراء الكشف على إصابته، بعدما تبين أن مصلحة الطب الشرعى لم تقم بتشريح أى جثة خلال أحداث الثورة، واكتفت بكتابة تقارير المعاينة الظاهرية.
بعد اطلاع «فودة» على الأوراق الرسمية التى يحملها، والتى حسب «تقرير طبى لمريض عند الخروج» صادرة عن مستشفى قصر العينى، كتب فى تشخيصه المبدئى أن الإصابة «كسر مضاعف بالفخذ اليمنى برصاصة نتيجة مظاهرات التحرير» وينص تشخيصه النهائى على «أن المريض (محمود عادل) والذى دخل المستشفى يوم ٣ فبراير، يعانى من كسر مضاعف بالفخذ اليمنى إثر طلق نارى، أدى إلى كسر بالفخذ مع إصابة بالعصب النسوى، وإجراء جراحة تثبيت بالمثبت الخارجى»، وبعد الاطلاع على صور الأشعة، بدأ كبير الأطباء الشرعيين السابق فى الكشف على الإصابة. فى تلاوة تقريره الطبى قال: عادة ما نحدد نوع الإصابة عن طريق تحديد مستوى واتجاه إطلاق المقذوف ومسافة إطلاق المقذوف، ونحدد المسافة بشكل تقريبى من رواية الشهود، ومن علامات قرب الإطلاق. ونحدد المستوى، من شهادة الشهود، ومن فتحة دخول المقذوف وفتحة خروجه، وأضاف: «ومن الكشف على قدم محمود عادل المصابة تبين إصابته بطلق نارى، وتفتت المقذوف وبالتالى أحدث نوعاً من التدمير شبه الشامل للعظام والعصب، ويبدو واضحا من الكشف أن مسافة الإطلاق، جاوزت حدود مدى الإطلاق القريب، وأن مستوى الإطلاق تم من أعلى لأسفل، لأن الكسر مائل، والشطف «مائل» وباطلاع «فودة» على شهادة محمود ومكان تواجده وقت الإصابة الموثق بمقطع فيديو التقطته قناة الجزيرة لحظة وقوع الإصابة، استطرد فودة: لما كان الشكل البيضاوى لأثر الإصابة مكان الدخول، يتجه إلى أسفل وبوحشية، فهذا يشير إلى أن إصابته من أعلى إلى أسفل، ويؤيد ذلك شكل الكسر المتفتت الذى يتخذ شكلا مائلا، وبالتالى فإن إصابة المذكور جاءت من أعلى إلى أسفل، وجاوزت مدى الإطلاق القريب، وبما أن محمود كان وقت الإصابة فوق كوبرى أكتوبر، فاحتمالية إصابته من فوق فندق هيلتون رمسيس كما يدّعى كبيرة.
مصــر- ضــرب المتظــاهرين بالنـــار
شارع رمسيس 26,01,2011
يدعم الاحتمالية، ويؤكدها نص ننقله من ملخص تقرير لجنة تقصى الحقائق بشأن «الأحداث التى واكبت ثورة ٢٥ يناير» يقول: تبين للجنة أن رجال الشرطة- أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشاً وذخيرة حية، فى مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير، خاصة من مبنى وزارة الداخلية ومن فوق فندقى النيل هيلتون ورمسيس هيلتون ومن فوق مبنى الجامعة الأمريكية.
ويقول عيسوى فى المؤتمر الصحفى نفسه الذى عقده بديوان الوزارة، وأعلن فيه عن أكبر حركة تنقلات شهدتها الوزارة فى التاريخ، إن «ضباط الداخلية اختفوا تماما يوم ٢٨ يناير» ويتساءل: «من صعد فوق أسطح العمارات المطلة على الميدان.. اللى يعرف يجاوبنى».
اللواء مختار شلبى، نائب مدير أمن الجامعة الأمريكية، يجيب: «يوم ٢٨ يناير مساء اقتحم بوابات المبنى المطل على شارع الشيخ ريحان أربع مجموعات من ضباط الشرطة فى البداية كانوا يطاردون ثواراً، كل مجموعة حوالى ٤ عساكر وضابط، وعندما تفقدنا المبنى فيما بعد وجدنا آثار دم، ثم صعدوا فوق السطح، ولم ينزلوا، حاولنا نطلع لهم فوضعوا البنادق فى وجوهنا، وصعدت فوق مبنى مقابل، وكشفتهم، فوجدتهم جالسين فوق السور المطل على الشارع».
ويكمل الشهادة محمد عبدالرحمن، الأستاذ الذى يعمل فى الجامعة الأمريكية بعقد مؤقت: يوم ٢٩ صباحا، كنت فى شارع محمد محمود، وكان فى أمن مركزى يسد الشارع، وكان يطلق نيراناً حية فى الهواء، ويغلق الشارع تماما بالعرض من ناصية الفلكى، وفوق العمارة كان يوجد اثنان، منهما واحد لابس جاكت أسود، شفته فوق، وكنت خايف منه وكنت بحاول دايما أقف فى جانب الشارع وليس وسطه، وكان فى واحد فى نصف الشارع، ومرة واحدة ظهر الثانى إلى جواره وسمعنا فرقعة آتية من أعلى، ووجدنا شاباً يسقط بطلقة فى صدره. يصمت محمد عبدالرحمن لحظات قبل أن يكمل «اختاره بالذات ونشن عليه وضربه».
ورغم نفى «عيسوى» وجود أى من عناصر الشرطة فى الميادين بعد ٢٨ يناير، وتأكيده خلال المؤتمر الصحفى نفسه الذى عقده بديوان الوزارة، أن «وزارة الداخلية ماتت فى ٢٨ يناير، ولم يكن هناك ضابط واحد فى أى من ميادين مصر» فإن وثيقة حصلت عليها «المصرى اليوم» من تفريغ النيابة لغرفة عمليات وزارة الداخلية أثناء الثورة، تنفى بشكل قاطع كلمات وزير الداخلية المصرى، فتنص الوثيقة بتاريخ ١ فبراير ٢٠١١، «البند ٣٤ الساعة ١٢:٥٥م إخطار من النقيب محمد أبوالعينين بانتظام عدد ٢ قناصة + ١ متعدد أرضى»، كما تشمل الوثيقة نفسها نصاً آخر مكتوباً ببساطة المعتاد «البند رقم ٥٦ أحوال الساعة ٦.١٥ إخطار من السيد الرائد كريم فتح الله، وأثناء سير السيد فى طريق امتداد رمسيس اعترض الطريق حوالى ٣٠٠ شخص بالعصى وتم التعامل معهم بالرصاص لمدة خمس دقائق.
وثيقة رسمية تثبت وجود قناصة أولا فى وزارة الداخلية، ثانيا فى الشوارع حتى يوم ١ فبراير، وشهادة من دكتور محمد ضياء الدين، معيد بقسم الجراحة وقسم الحوادث فى مستشفى قصر العينى، للنيابة، تلقى الضوء حول ما كان يفعله هؤلاء القناصة، يقول الطبيب الذى تواجد بشكل دائم داخل قسم الحوادث فى مستشفى قصر العينى، منذ ٢٧ يناير حتى ٧ فبراير، وكان مسؤولا عن استقبال المرضى، يومى ٢٨ و٢٩ يناير «نعم يوجد عدد كبير من المصابين بطلقات نارية» ولا يستطيع تحديد أعداد المصابين الذين استقبلهم المستشفى خلال هذين اليومين لأنها ببساطة «مئات المصابين لا أستطيع تحديد العدد» ولكنه يتذكر تقريبا أعداد المصابين بطلقات نارية «فى عدد ضخم جدا.. حوالى ٣٥٠ مصابا» ويبدأ فى الشرح: «معظم المصابين الذين دخلوا المستشفى أتوا من ميدان التحرير.. فى البداية من الساعة ٣.٣٠ وحتى ٥ عصرا، كان يتوافد عدد كبير من المصابين برصاص خرطوش.. ومن الساعة الخامسة وحتى السابعة بدأ المستشفى يتلقى مصابين بطلقات نارية، ثم بعد السابعة مساء بدأت تأتى أعداد ضخمة من المصابين بطلقات نارية واستمر الحال حتى السابعة من مساء اليوم التالى».
ويكمل «هناك تعمد واضح حيث كان يتم إطلاق الرصاص على الصدر والمواضع القاتلة فى الجسم، وبالتالى يظهر ذلك رغبة من يطلق الرصاص فى قتل المتظاهرين».
شهادة خطيرة، يؤكدها الدكتور أحمد عبدالرحمن، الطبيب المقيم جراح مخ وأعصاب بمستشفيات جامعة القاهرة، لـ«المصرى اليوم» والذى تواجد فى مستشفى قصر العينى، بداية من جمعة الغضب، وحتى نهاية الثورة، وقال «الإصابات فى الصدر والرأس كانت لعدد كبير جدا، وتم إثبات إصاباتهم بطلقات نارية فى الرأس».
يقف عبدالرحمن ليلتقط أنفاسه، قبل أن يكمل « هناك علامات استفهام، تكونت لدى مشاهدتى للمصابين والمتوفين، أهمها أن الرصاصات التى اخترقت الرأس، خرجت من الجهة الأخرى، وهو الأمر المستحيل عمليا، مع المسدسات العادية، إلا لو أطلقت هذه الرصاصة من مسافة أقل من ٥ أمتار» ويكمل: عادة لو أطلق الرصاص الحى من هذه المسافة القصيرة، سيترك آثاراً، ورائحة بارود على جسد المصاب، ولكن هذه الآثار لم تظهر فى الحالات التى كشفت عليها، وهو ما يعنى بشكل واضح، أن الرصاص الحى المستخدم لقتل وإصابة هذه الحالات، كان باستخدام رصاص سريع جدا ومن مسافة بعيدة».
الملحوظة الذكية الثانية التى كشفها «عبدالرحمن» للجريدة، أن معظم الحالات التى كشف عليها شخصياً، والمصابة برصاصات فى الرأس، «كانت فتحات دخول المقذوف عادة فى منتصف الجبهة»، وهو ما يدل، حسب جراح المخ والأعصاب على «دقة التصويب فى منتصف الجبهة كحقيقة ثانية، توضع إلى جانب الحقيقة الأولى، وهى أن الرصاصات كانت سريعة جدا ومن مسافة بعيدة وهو ما يثبت تعمد عناصر الداخلية قتل المتظاهرين».
«عادة يستخدم القناصة فى وزارة الداخلية بنادق لا يتعدى مداها ٨٠٠ متر، لتأتى الرصاصة سريعة وقوية ودقيقة، ولا يوجد نوع واحد من البنادق تستخدمه الوزارة» هكذا ختم اللواء «نصار» كلماته، وتركنا مع رصاصة قناصة ذهبت بنا إلى والد الشهيد شهاب حسن شهاب، طالب «النظم والمعلومات»، الذى تظاهر يوم ٢٨ يناير مثل كثيرين، وعاد إلى منزله أيضا مثل كثيرين فى نهاية نهار الجمعة الغاضبة، لمّ أسرته حوله ليروى لهم ما رآه فى المظاهرات، وربما ليلقى عليهم سلامه الأخير، قبل أن يتبع نداهته الخاصة، ويستجيب لنداءات حماية المتحف المصرى، التى انتشرت فى منتصف الليلة، ويعود إلى ميدان التحرير، ومن أمام المتحف- شهادة الوفاة- تجره أصوات صراخ إلى إمام مسجد عمر مكرم، ليظهر ربما فى عدسة بندقية قناص، فتجد إحدى الرصاصات رأسه هدفا لها، فتخترقها وتخرج من الجهة المقابلة.
تقرير نيابة مصر القديمة، للقضية رقم ٧٣٠، إدارى يقول «تبين أن السيد شهاب حسن عبده عبدالمجيد شهاب، توفى أثناء وجوده فى المظاهرات السلمية، التى بدأت اعتبارا من ٢٥ يناير بإصابته بطلق نارى بالرأس وأن مكان الوفاة فى ميدان التحرير، يوم ٢٨ يناير، أمام مسجد عمر مكرم». ووالد الشهيد شهاب يكمل القصة «فى مساء نفس اليوم، عرفنا من أصدقاء شهاب أنه فى مستشفى قصر العينى وأنه أصيب برصاصة فى رأسه من الجانب الأيمن خرجت من الجانب الأيسر، وظل بالمستشفى حتى يوم الجمعة ٤ فبراير ثم اختاره الرحمن ليكون شهيداً من الشهداء».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق