السبت، 4 يونيو 2022

فاتت جنبنا ... نموذج للغناء الدرامي.. فيديو

 

   أنا بافكر ليه؟ وبشغل روحي ليه؟



الدراما نوع من التمثيل، يطلق على ما نشاهده على خشبة المسرح أو التلفزيون أو الإذاعة، ولكنه قد يتخطى ذلك ليكون تمثيلاً إيمائيًّا للإلقاء الشعري، يصحبه تلوين بالموسيقى أو الصوت، أي أنه قد يصل إلى أن يكون الممثل شخصًا واحدًا، لكنه يستطيع أن يؤدي الحدوتة أو الحكاية بإتقان دون مشاركة غيره، وهذا ينطبق على القصائد المغناة والتي تحمل قصة في ذاتها، لها بداية وموضوع ونهاية.
اشتهر في تراثنا الغنائي القديم والحديث ما ينطبق عليه ذلك، مثل: ((ساكن قصادي، وماذا أقول له، وفاتت جنبنا))، وغيرها الكثير، وارتبطت هذه النوعية من الأغاني بالطول، والمقاطع التي أشبه بالمشهد الدرامي، فيعبر كل مشهد عن دفقة روحية وحالة فكرية ترتبط بالفكرة العامة للنص، مع خلاف في الغالب في الجو النفسي حسب ما يقتضيه الكلام.
ومن هذه النماذج ((فاتت جنبنا)) التي تحتاج إلى وقفة تأملية في عبقرية صناعة الكلمة، وكيف تمكَّنَ كاتبُها الشاعر (حسين السيد) من الوصول بها إلى أن أصبحت وثيقةً لصورة من صور الحياة الشبابيَّةِ في عصر السبعينيات من القرن الماضي.
القصيدة في مجملها رحلة بحث من الشك إلى اليقين، أو بمقدورك أن تربطها بمذهب (ديكارت الشكي)، فالضميران ((أنا، وهو)) و((لنا)) في أبيات القصيدة يعبران عن حالة متغيرة ما بين التنازع بين الشك واليقين، بل إن المقطع الذي يتكرر في نهاية كل مقطع يستلهم قضية الشك وإثباته، بقوله:
أنا بافكر ليه؟ وبشغل روحي ليه؟
أعرف منين إنها قاصداني أنا مش هو.. مش هو
وأعرف منين إن الضحكة دي مش له هو.. له هو
وليه أنا؟ ليه أنا؟ ليه ليه مش هو؟
إلى أن تجيء النهاية، ليصل إلى حالة اليقين والتثبُّت، وتنتهي القصة، دون أن ينسى أن يجتزئ من هذا المقطع المتكرر ألفاظه، لكن هذه المرة مع الإثبات، فيقول:
أنا.. أنا أيوه أنا أنا
أنا أنا أنا أنااااا مش هو
لكن الملاحظ الإسراف في تكرار الضمير ((أنا)) ثماني مرات، في ظل ضمير الغياب ((هو)) الذي ورد مرة واحدة، وكونه غائبًا من البداية قد تكون له رمزيته الشاعرة، فلا يستوي الحضور ((أنا)) بالغياب ((هو)).
الغريب في مطلع هذه القصيدة حديثه عن غائبة، في مرورها العابر، الذي ألقى بظلاله، ولكن تحول الغياب إلى حضور معنوي في الأثر، وذلك في ضحكتها الملازم في تأثيره على العاشق، وهناك تلازم حدث بين الضميرين ((أنا، وهو))، وهذا تأكيد على ضمنية الشك والتوجُّس المصاحب للمتكلم، يضاف لذلك أن صناعة الحدث دائمًا ما كانت تأتي من ضمير الغائبة ((هي))، فهي التي فاتت، وهي التي ضحكت، وكل ما كان يصنعه المحب التلقي والتأثر، يتضح في قوله:
رديت وكمان رديت
وفضلت أرد أرد لحد ما فاتت
ونسيت روحي وصحيت
لقد أصبحت تملك زمام الأمور، وبإراتها وانعكاس جاذبيتها أضحت تغيِّرُ مصير النفس والروح، حتى إنها ((أخذت الشمس وغابت))، في حال غيابها، والشمس رمز يريد به الشاعر الحياة أو الحقيقة أو البرهان.
وكان المنولوج الداخلي أو حديث النفس حاضرًا لا يغيب في هذه القصة الدرامية، بل كان مساويًا للحضور الظاهري للأحداث، ظهر في استخدامه للأفعال والأحداث القلبية نحو: ((انشغلت، سائل روحي، احترت، أعرف منين، أنا بفكر ليه، أسمع في قلبي، سمعت منها كام كلمة، بس أنا حسيت...)).
وإذا كان أطراف القصة ثلاثةً، فالعنصر الذي يظهر أولاً، ويحرك الأحداث كما قلنا هي المحبوبة، وبدأت بها الحكاية ((فاتت))، والشخصية الثانية الشاعر والمعبر عنه بـ((أنا))، والشخصية الثالثة، والمعبر عنها بـ((هو))، وتطلب حضوره في لحظات الشك، ليصنع تنازعًا من وجهة نظر الـ((أنا))، لكنه شخصية لازمة في كل المشاهد، يقول:
مرة تانية برضو صدفة .. كنت أنا وهو فى طريقنا
شوفنا خطوة حلوة حلوة، حلوة جاية وضل تالت
ضل تالت، بيسابقنا بيسابقنا
وتعبر القصيدة من جانب آخر عن حالة الوجد الرومانسي في هذه الفترة، تتضح آثاره في العشق السريع وحالة الشجن التي أجاد التعبير عنها المطرب في بداية القصيدة بصوت رقيق، وبصورة أقرب إلى الحديث إلى أصحابه في السمر منه إلى الغناء، ما يعطي مصداقية، هذه الحالة التي تأخذ بصاحبها في شيء من التيه، يقول:
وابتديت أسمع فى قلبي في قلبي .. لحن حب،
لحن حب... لحن حب جديد عليا جديد عليا
سمعت منها كام كلمة .. ما قالتش منهم ولا كلمة
بس أنا حسيت، حسيت .. ولأول مرة أنا حسيت،
ولأول مرة باعيش وباحس
ولقيتني بادوب وبادوب، فى كلام الهمس بادوب
     أنا بافكر ليه؟ وبشغل روحي ليه؟ أعرف منين إنها قاصداني أنا مش هو.. مش هو وأعرف منين إن الضحكة دي مش له هو.. 
له هو وليه أنا؟ ليه أنا؟ ليه ليه مش هو؟
 
 

 ولكي تتم حالة الخيال والرومانسية الغالبة على الأحداث الوجدانية، لزم الأمر البعد عن الواقعية بكل أشكالها، فأتقن حسين السيد اختيار جملة: مرة تانية برضو صدفة .. كنت أنا وهو فى طريقنا وذلك لأن محاولة التعمد في صناعة الحدث من سمات الواقعية، الذي يعني الاختيار، أما الحب الرومانسي فهو قدريٌّ، لا علاقة للمحب به، فهو فرض عليه، تلك هي الصدفة التي منحها القدر في نسج الأحداث، والتي تتكرر فينضج ويكبر معها الحب، وفي كل مرة يساوره الشك، ولكن يقينًا يبدو من خلف الأحداث ويتفجر في قوله: حبيتها.. حبيتها.. أيوة أنا حبيتها وإذا كانت عناصر الزمن تتضح بكثرة في اختيارات الشاعر للجمل والعبارات وحالة الوجد فإنها في الماديات تبدو كذلك، في قوله: وبعتّت كلمتين .. مش أكتر من سطرين .. قولت لها ريحيني قولي لي أنا فين .. وهو يسير على نمط الطريقة التقليدية في المراسلات، وتأتي النهاية السعيدة فتثبت له حقيقة الحب. قد تكون القصيدة رمزية على أشياء كثيرة نعيشها، فليس شرطًا أن تقصد إلى قصة حب عابرة، فتبدو إسقاطاتها على تسرب الشك في الأنا في مقابل الآخر، إلى أن يثبت العكس، فتصنع خبرة للوثوق بالذات وتأكيدها في مقابل الآخر، لكنها من أعظم ما كتب في هذه المرحلة وعبر عن الروح الشبابية الصافية في هذه الفترة.

؛؛؛؛ مصـــر الـيـــوم ؛؛؛؛


ليست هناك تعليقات: