قصة مدينة انقسمت إلى مدينتين مدينة رفح
رفـــح..مدينة انقسمت إلى اثنتين لكن الروابط بينهما ظلت واحدة
أصدر السيسي، عدة قرارات الأربعاء، بتعيين مستشارين له لشؤون مكافحة الإرهاب، والأمن القومي، في الوقت الذي أمر فيه بالبدء في إنشاء مدينة "رفح الجديدة"، لاستيعاب سكان المنازل التي يجري إخلاؤها في المنطقة الحدودية مع قطاع غزة..
ولدت في مدينة رفح الحدودية بين مصر وفلسطين، ولهذه المدينة كانت رفحاً واحدةً ثم صارت رفحين إحداهما مصرية والأخرى قصة معاناة إنسانية ينبغي أن نعرف الناس شيئاً منها.. فلسطينية..فصلت بينهما حدود السياسة لكن روابط الروح والدم لا تقيم شأناً لحسابات السياسة الجافية عديمة الأخلاق والضمير... لم يكن الناس يعرفون سوى رفح واحدة، فنفس العائلات هي التي تسكن في كلا الشطرين، كانوا يتعايشون على أرضها ويسكنون حيثما أرادوا ويتزاوجون فنشأت علاقات اجتماعية قوية دون أن تكون هناك أية حدود فاصلة إذ كانت كلا الرفحين تخضعان للحاكم المصري ثم في حرب 1967 خضعت كلاهما للاحتلال الإسرائيلي وهكذا استطاعت رفح المحافظة على وحدتها.
لكن حين وقعت اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 كانت تنص على إقامة سلك شائك يقسم رفح إلى جزئين، وقد طبق هذا البند على الأرض في الخامس والعشرين من أبريل عام 1982 مع بداية عهد مبارك وهنا بدأ فصل مروع من فصول المأساة الإنسانية المتواصلة حتى اليوم.
فقد مر هذا السلك الشائك من وسط البيوت والأراضي والممتلكات حتى أنه قسم البيت الواحد إلى بيتين فتكون إحدى غرف البيت مصريةً والأخرى فلسطينية وتشتتت العائلات على طرفي الحدود فصار الأب في مصر وابنه في فلسطين، والأخ هنا وأخوه هناك، والأم هنا وابنها هناك، وهكذا أثبتت السياسة من جديد كم هي متجردة من كل خلق وإنسانية.
أصدرت كل من السلطات الإسرائيلية والمصرية تصاريح مرور مؤقتة لأهالي الرفحين ليتسنى لهم الوصول إلى ممتلكاتهم وأراضيهم على الجانب الآخر لكن هذه التصاريح سرعان ما تم سحبها وقطعت أي إمكانية للتواصل بين الأخ وأخيه والأب وابنه باستثناء معبر رفح وما فيه من تعقيدات أمنية وإجرائية حرمت كثيرين من السفر من خلاله..
أمام هذا الفصل المروع من الحرمان والمعاناة لم يجد سكان الرفحين بداً من البحث عن أي وسيلة ليتسنى لهم استمرار التواصل فكانت الوسيلة الوحيدة هي التواصل عبر السلك الشائك فيقف الأقارب على طرفي الحدود يتحدثون مع بعضهم عن بعد بينهما برزخ لا يبغيان فيه الأسلاك الشائكة وجنود الاحتلال والجنود المصريون.
وحين كان يتوفى شخص في إحدى الرفحين كانوا يستعملون مكبرات إحدى المساجد الحدودية لإعلام أقربائه في الطرف الآخر، ثم يقام له بيتا عزاء في كلا الجانبين.. من المشاهد المروعة التي تختزنها الذاكرة هو مشهد وفاة ابنة عمتي الحاجة فاطمة التي كانت متزوجةً من ابن عمها في رفح المصرية، بينما أمها تقيم في رفح الفلسطينية، ولما توفيت لم تجد عمتي العجوز وسيلةً لتوديع ابنتها سوى التوجه إلى السلك الشائك وإلقاء نظرة عن بعد على نعش ابنتها ... لكن حتى هذه الوسيلة القاسية للتواصل لم يرق للاحتلال استمرارها، فحين جاءت انتفاضة الأقصى عام 2000 بدأت قوات الاحتلال عمليات هدم واسعة للمنازل القريبة من الشريط الحدودي في رفح فدمرت آلاف هذه المنازل، وهي العمليات التدميرية التي جاءت بالشهيدة الأمريكية ريشيل كوري لتدافع عن منازل أهل رفح فكان قدرها أن تدعسها جرافة احتلالية فتهشم عظامها، وبعد أن أتمت دولة الاحتلال تدمير هذه الآلاف من المنازل وحولت منطقة الشريط الحدودي بأكملها إلى ركام وخراب أنشأت جداراً اسمنتياً وفولاذياً عازلاً على غرار جدار الضفة مما حجب رفح المصرية عن أعين شقيقتها رفح الفلسطينية فلم يعد التواصل ممكناً حتى بحده الأدنى .. في الثاني عشر من أيلول عام 2005 انسحبت القوات الإسرائيلية من قطاع غزة بعد ثمانية وثلاثين من الاحتلال بشكل أحادي دون التنسيق مع مصر أو السلطة، وشمل هذا الانسحاب الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وغزة، مما أتاح للفلسطينيين تجاوز الحدود لأول مرة منذ ترسيمها، فكانت فرصةً لالتقاء العائلات بعد انقطاع طويل ماتت فيه أجيال وولدت أجيال جديدة تسمع عن أقارب لها لا يبعدون عنهم سوى مئات الأمتار دون أن تراهم، وكانت لحظات مليئةً بالمشاعر الإنسانية وبالدموع والذكريات سجل فيها لقاء أم بابنها أو أخ بأخيه بعد انقطاع ..
أكثر من عشرين عاماً.. لكن هذه الفرحة لم تدم طويلاً إذ سرعان ما أعادت السلطات المصرية إغلاق الحدود بعد أيام قليلة من فتحها وكان على الفلسطينيين أن يعودوا مرةً أخرى إلى سجنهم، وأن تعود العائلات إلى الافتراق .. تسارعت الأحداث في الأعوام اللاحقة إذ فرض حصار مشدد على قطاع غزة فأغلقت جميع المعابر التي تصل قطاع غزة بالعالم الخارجي بما في ذلك معبر رفح الذي تشرف عليه السلطات المصرية، ومنع عن غزة دخول الغذاء والدواء والوقود ومواد البناء وتنقل الأفراد، وبعد عام ونصف من الحصار المشدد وبعد أن وصل الحصار إلى ذروته بغرق غزة في الظلام الدامس جاء الانفجار باتجاه الحدود المصرية إذ عبر مئات آلاف الفلسطينيين في الثاني والعشرين من يناير عام 2008 الحدود مرةً أخرى باتجاه مصر وكانت فرصةً ثانيةً لأهالي رفح للالتقاء مع ذويهم.. بعد حوالي أسبوع من فتح الحدود قامت السلطات المصرية مرةً أخرى بإغلاقها ووعدت بفتح معبر رفح، ولكن حين تمت لها السيطرة على الحدود نكثت بوعدها وعاد مسلسل الحصار المشدد من جديد، وهنا لم يجد الفلسطينيون وسيلةً في صراع البقاء الذي يخوضونه إلا أن ينبشوا الأرض ويحفروا الصخر فابتدعوا فكرة الأنفاق بين الرفحين لإدخال الدواء والغذاء والوقود، وهنا كان للعلاقات الاجتماعية بين سكان الرفحين دور في إنجاح هذه الفكرة إذ كان صاحب النفق في رفح الفلسطينية يتواصل مع أحد أقربائه في الجانب الآخر ويتفق معه على أن يكون مخرج النفق في أرضه أو بيته، ونجحت هذه الفكرة بالفعل في التخفيف من الحصار الخانق على قطاع غزة عبر إدخال كافة أصناف الأغذية والمواد إلى غزة.
مع الأيام والسنوات تطورت فكرة الأنفاق التي تجاوز عددها الأربعمائة نفق فلم تعد قاصرةً على إدخال البضائع وحسب بل صارت وسيلةً للتواصل الاجتماعي بين الأقارب على الجانبين، وخصصت أنفاق لمرور الأفراد بعد إدخال تحسينات على بنية هذه الأنفاق بتوسيعها وتهويتها وتحصين بنائها، ولا تزال هذه الوسيلة هي الوسيلة الأكثر فاعليةً للتواصل الاجتماعي بين الرفحين خاصةً في ظل ما يشهده السفر عبر معبر رفح من تعقيدات سياسية وإجرائية.لقد كانت هذه الأنفاق استجابةً تاريخيةً لتصل ما أمر الله به أن يوصل ولتعيد الوحدة الجغرافية والتاريخية التي قطعتها السياسة. بدأ عهد جديد في مصر مع إسقاط نظام مبارك الذي كان انقسام رفح إحدى أوزاره، وعلق الرفحيون آمالاً عريضةً بإعادة الوحدة بين شطري مدينتهم ولو
في حدها الأدنى الذي يستجيب للاعتبارات الإنسانية، لكن انشغالات الثورة المصرية الكثيرة لم تبق مساحة للاهتمام بهذه المدينة النائية.. أخيراً بعد أكثر من ثلاثين عاماً من النسيان وجدت قصة انقسام رفح طريقها نحو الاهتمام الإعلامي بوثائقي عبر قناة الجزيرة، فهل يسهم هذا الوثائقي بإخراج هذا الملف الإنساني الملح إلى دائرة الاهتمام!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق