.. طبـــاخ البشــوات ..
عاصر فؤاد وودع فاروق والتقي بـ٦ رؤساء
عاصر فؤاد وودع فاروق والتقي بـ٦ رؤساء
عندما يتحدث تشعر للوهلة الأولى وكأن صوتا قد أتى من بعيد ، متخفيا خلف ستار رجل عجوز ، قضي قرابة القرن من الزمان، ولا زال يمتطى صهوة الشباب والعنفوان ، مستقلا قطار الحياه ، ليبعث بنبرات صوته المتقطعة وانفاسه الضائعة روائح الزمن العتيق ، ليروى قصة ٨٠ عاما، كان شاهدا عليها فى عهد إثنين من الملوك و٦ رؤساء شهد فترة ولايتهم والتقي بهم وكان أحد موديعهم فى يوم الرحيل.
طباخ البشوات كما كان يلقبونه فى عصر الملوك والأمراء ، ذلك الشاب الذي ارتسمت على ملامح وجهه سمار أهل الواحات المفعمة بالطيبة والطموح وأحد أسباب نجاحه فى اقتناص فرصة عمل داخل سرايا القيادات بحى الزمالك قديما بفيلا نشأت باشا رجل الأعمال وصاحب أكبر مصانع البلاستيك والأوراق ، وطباخا بلوكاندة عزيز بحرى بمنطقة قصر النيل عام ١٩٤٠م، حيث تدرج فى وظيفته وحصل على الزى الرسمي للسفرجى والطربوش وكانت احدى علامات الترقي ائنذاك لإستضافة الشخصيات الهامة ووفود الزيارات.
محمد لم يكن شابا عاديا أتى من الواحات إلى ضواحى القاهرة وهو فى سن السادسة عشر عام ١٩٤٠م ، فلقد كانت حياته مليئة بالمتغيرات والأحداث الشهيرة ، والذى كان أحد مودعى الملك فاروق عند رحيله عن مصر عقب ثورة الضباط الأحرار ، وحديثه مع أول رئيس لمصر ، وحزنه على وفاة آخر واستقباله بمسقط رأسه لرجل الحرب والسلام ، لينتهى به الحال بين مجموعة من الأخشاب يشكلها بذوق الفنان وروح المجالد على هيئة الضبة والمفتاح أحد أبرز أوائل الأقفال الخشبية منذ عصر الفراعنة إلى يومنا هذا
يقول محمد حمودة سيد بكر ٩٣ عاما من أبناء قرية غرب الموهوب بمركز الداخلة التابع لمحافظة الوادى الجديد ،فى تصريح خاص لبوابة الجمهورية أون لاين ، عاصرت الكثير من الملوك والرؤساء وعملت بمهنة الطبخ وتقديم أصناف الطعام داخل الفنادق وبعض قصور البشوات ، مشيرا إلى أن حياته مليئة بالكثير من المواقف السارة والعجيبة يرويها بعد مضى أكثر من ٨٠ عاما مضت على حدوثها وكان أحد معاصريها منذ زمن بعيد.
وهنا يتنهد إبن الواحات طباخ البشوات مسندا رأسه على جدار منزله البسيط فى استفاقة جعلته يعود بالذاكرة إلى ماقبل تاريخ إعلان الجمهورية فى ومضة تاريخية أشار إليها باصابعها المتصلبة نحو شرفة الملك فؤاد بقصر عابدين وهو يلوح بكلتا يديه إلى جموع الشعب من المواطنين المارين أسفل القصر ، وعلى الجانب الآخر يسدل الستار على رحيل آخر الملوك من حكام مصر وهو الملك فاروق الأول أثناء رحيله على متن الباخرة المتجهة إلى أوربا بعد عزله عن الحكم وعلامات الغضب الشديد التى ظهرت على وجهه المحتقن .
وعن لقائه بأول رئيس جمهورية وهو الفريق محمد نجيب أوضح أن حديثه مع الرئيس لم يستغرق أكثر من دقيقة طلب منه توقيعه على بطاقته الشخصية كتذكار لنجاح الثورة فمنحه ذلك ضاحكاً وقال له " بس كدا اتفضل يا سيدى"
واضاف حمودة أن من أكثر المواقف والمشاهد التى لم يتمكن من محوها مطلقاً من ذاكرته نظرا لقسوتها وفيض مشاعرها الحزينة ، مشاركته آلاف الجماهير التى جاءت مودعة لنعش الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فى جنازة مهيبة فى ال٢٩ من سبتمبر عام ١٩٧٠ ، مؤكدا أن شوارع وميادين القاهرة احتشدت فى ذلك الوقت بالملايين من الجماهير بداية من قصر القبة حتى كوبرى قصر النيل، رافعين أعلام مصر وصور الزعيم الراحل من الرجال والنساء ، فكانت جنازته مفعمة بالحزن والدموع، حيث زحفت جموع الشعب من كل أرجاء مصر إلى القاهرة لتلقى النظرة الأخيرة على جثمانه حتى أن البعض ألقي بنفسه من فوق أسطح المباني من هول الصدمة وشدة الحزن.
وأوضح بكر أن الحياة حينها توقفت تماماً، حيث أغلقت المصانع والمحال التجارية والمدارس أبوابها لمدة 3 أيام حداداً على روحه، واتشحت المنازل والميادين بالسواد، فيما أذاعت المساجد القرآن الكريم بمكبرات الصوت حزناً على رحيله، على حد قوله.
وتحدث إبن ال٩٣ عاما عن زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات لمحافظة الوادى الجديد ومسقط رأسه بغرب الموهوب عام ١٩٧٨م ، قائلاً بأن الزيارة كانت تاريخية حظيت باهتمام إعلامي واحتشاد المئات من أهالى المحافظة فى إنتظار وصول رجل الحرب والسلام والذى قام بزراعة عدد من أشجار النخيل على بعد أمتار من قريته الصغيرة ومزارع للفاكهة بمركز الفرافرة وذلك تخليدا لذكرى هذه الزيارة.
ولم ينس إبن الواحات ما ذكره الرئيس محمد أنور السادات فى خطابه إليهم عندما سأله أحد المواطنين عن الهدف من زيارته للمحافظة، ليرد الرئيس بنبرة صوته الجذابة ، كما قلت من قبل فإن مستقبل مصر هنا إننا كما تعرف نعيش فى الوادى القديم على مساحة ثابتة وهذا هو الوادى الجديد ، لقد سعدت فعلا بزيارتكم بالمعنى، الذى يجب أن يكون معلوما لكل من يعيش على ارض مصر ، وهو أننا جميعا أسرة واحدة ، عائلة واحدة ، كل منا يحس بالآخر ، وعليه فعلا أن يقدم لأخيه فى وقت الشدة كل ما يملك ، وان يقف مع اخيه لكى نبنى جميعا رخاء مصر وقوة مصر.
وعن حرفته التى ورثها عن آبائه وأجداده أقدم من عملوا بمجال النجارة البلدى وتحديداً صناعة الضبة والمفتاح الخشبية لغلق الأبواب من الخارج بمحافظة الوادى الجديد ، أكد حمودة أنها تعتبر أحد أقدم الدلائل الأثرية على إستخدام الأقفال اليدوية في العالم ذات المفتاح يرجع إلى ما يزيد عن أربعة آلاف عام مشيرا إلى أن هذه الأداة هى بمثابة قفل للباب ، وذلك منذ بداية الأشكال الأولى للحضارة والتمدن وبناء المنازل الشخصية والقلاع, والتى إعتاد الإنسان القديم على أن يغلق الأبواب من الداخل وكان الكثير يواجهون مشكلة عند خروجهم من منازلهم ومحالهم في إيجاد طريقة لإغلاقها عند الخروج لكي لا تتعرض للسلب .
ولفت إلى طريقة عمل الضبة تمكن فى صناعة المفتاح والذى يتكون من فتحتين لا تسمحان باستخدام مفتاح آخر، أما إغلاق القفل فيتم بواسطة الضغط باليد على القطعتين في القفل دون استخدام المفتاح ، بالإضافة إلى آلية عمل المزلاج القديم بحيث يدخل المفتاح المسنن بواقع ٦ فتحات، وما يقابلهم من بروز مسننة بنفس المواصفات الدقيقة ليرفع الأوتاد التي تمسك المزلاج وبعدها يتم سحب المفتاح المسنن ليقوم بسحب المزلاج لينفتح الباب .
وختم أحد قدامى مصنعى الضبة والمفتاح أن لم يكن آخر الممارسين لتلك الحرفة حديثه بأنه لا يستطيع التخلى عن تلك الحرفة معتبراً إياها مصدر سعادته وترفيهيه بجانب أحفاده الذين يتلفون حوله كل يوم ليحكى لهم قصاقيص من نفحات الزمن الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق