الاثنين، 27 يناير 2020

من يناير 1977 لـ يناير 2020.. دروس مستفادة (1)


من ينــاير 1977 لـ ينـــاير 2020
.. دروس مستفادة (1) ..



الشاهد في هذا الجزء من المقال وفيما يتعلق بسؤال ما العمل هو أن كافة الفرق السياسية التي فشلت في الحفاظ على وجودها عقب حركة يوليه 1952، عادت للواقع السياسي بإرادة الجماهير
نحمد الله حمدا كثيرا ملء السماوات والأرض على نعمة مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها «فيسبوك»، فهى من رحمة الله على عبيده المحاصرين في مجتمعات القمع والاستبداد ونظم الحكم العسكرية والفاشية.
ما علينا... سأل سائل على «فيسبوك» «ما العمل؟»، سؤال تجاهلنا الإجابة عنه في كل ما كتبناه نحن طائفة الكتبة والصحفيين، فلقد كتبنا كل شيء بشجاعة وجبن وصدق وكذب وتملق وصراحة ووضوح وغموض، كتبنا تحليلات وتفسيرات وتوضيحات وأراء، ولكننا لم نجب عن سؤال "ما العمل؟"
ما العمل؟
لأني تربية المدرسة الاشتراكية التي كانت ترفض الفردية وتؤمن بالجماعية فقد كانت إجابتي الأولية عن هذا السؤال «العمل في أيدينا كلنا»، ولكنها في الحقيقة لم تعكس الجوهر المنطقي للرؤية الاشتراكية، بل كانت محاولة مني للتلفيق والهروب، فهى إجابة مائعة مراوغة بها نوع من الغرور والكبر اليساري المقيت والتعميم المُضلل.
ومن حسن الحظ ولأن الواقع والمجتمع كانا أكثر صدقا منا، فقد كان الواقع بكل همومه ومشكلاته المتفاقمة، متجاوزا كل النخب بكل اتجاهاتها وأيدولوجياتها، وذلك على عكس المنطق، وهو ما يفسر الصورة السيرالية للحركات السياسية في مصر  التي تتبع حركة الشارع المأزومة بدلا من أن تتقدمها.
وسأحاول أن أتتبع كل الخبرات وسلسلة التراكمات التاريخية لحراك الشارع المصري من يناير/ كانون الثاني  1977، حتى يناير /كانون الثاني هذا العام الذي اعتبره ضمن حراك ثورة يناير / كانون  الثاني 2011 التي لم تكتمل بعد، مع التعرض لبعض الممهدات التاريخية السابقة عن هذه الفترة.
والغرض من هذه السطور والكلمات يتلخص في هدفين، الأول هو محاولة لتوضيح الحقائق لأبنائنا الذين وقعوا في شرك مؤامرة مخابرات الدولة العميقة لفصلهم عن جذورهم وأضعافهم والانقضاض عليهم، وتوهموا أن الشباب هم فقط الذين قاموا بثورة 2011. واعتبروا أن كل حراك الأجيال السابقة غير موجود. بل وصل الأمر إلى اتهام الأجيال السابقة بالخنوع والخضوع والاستجابة للذل والإهانة، فكانت النتيجة تفكيك حركة المقاومة المجتمعية ضد الاستبداد والفاشية وتحويلها لجذر منعزلة بلا جذور ولا أصول ولا خبرات، واستمرار الاستبداد جاثما على أنفاس الوطن.
الأمر الثاني هو محاولة للإجابة عن سؤال «ما العمل» من خلال الاستفادة من لحظات الحراك الجماهيرية، التي أحرزت نجاحات في بعض الفترات وذلك عبر سرد تاريخي لبعض المحطات التاريخية التي توالت عبر بعضها مكونة تراكم متصاعد.
... الاستيعاب ...
نجحت حركة الجيش 1952 في قلب نظام الحكم الملكي مستندة استنادا كاملا إلى دعم حركة الرفض والغضب المتصاعدة في الشارع المصري آنذاك وتوتر العلاقة بين الشعب المصري والنظام الملكي، وذلك عبر حراك ما بين مد وجذر منذ بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882. وباختصار ما يهمنا أن سلطة العسكر التي نفذت الانقلاب بدلا من التمسك بقاعدتها الشعبية والتي كانت الأساس في نجاح حركتهم يوم 23 يوليه/ تموز 1952وإدارة شؤون البلاد تحت مظلة شعبية، انقلبت على القوى السياسية الشعبية المدنية وأوقفت تأثيرها تماما في الشارع المصري من خلال سياسة قمعية شديدة البطش، استخدمت فيها السجون والتعذيب والقتل والتآمر، وشمل هذا كل أطياف المعارضة المدنية سواء كانوا شيوعيين أو إخوان أو وفديين أو غيرهم، واستكان الشعب المصري هذه الفترة وأذعن للحكم القائم بتأثير عوامل القمع، والإنجازات على المستوى الاقتصادي والامتيازات للفئات التي كانت مطحونة فترة الحكم الملكي وفي مقدمتهم العمال والفلاحين، بالإضافة إلى عامل جديد منذ عام 1956. وهو وجود خطر خارجي على مصر تشكله إسرائيل على الحدود الشرقية، وظهر شعار «لا صوت يعلو صوت المعركة، وبفعل هذه العوامل والظروف اختفت تحركات المعارضة وأصواتها في الشارع المصري، حتى هزيمة 1967.
... ملامح الوعي ...
وفي عام 1968 اشتعلت جامعات مصر بمظاهرات طلابية لأول مرة منذ عام 1954. وكان سببها الاحتجاج على أحكام ضباط الطيران المسؤولين عن هزيمة 1967. وكانت حركة طلابية بلا ملامح أيدولوجية واضحة، وإن كانت لم تخل من رائحة اليسار، ورغم العنف والشراسة المعروفة عن النظام في الفترة الناصرية إلا أن مواجهته لهذه الحركة الطلابية كانت أقل شراسة وربما كان السبب أن النظام كان مكسورا بفعل الهزيمة.
وظل الوضع على ما هو عليه تحت تعظيم شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، حتى مات «ناصر وتولى الحكم بعده جنرال آخر هو أنور السادات في ظل مرحلة جديدة ملامحها انكسار القيد الحديدي الذي كان يقيد حركة المعارضة في مصر.
... محطات نضالية مصرية ...
تسلم «السادات» الحكم ملتزما بمهمة واحدة وهي إنجاز حرب الكرامة وتحرير الأراضي المحتلة بعد هزيمة 67، وشهدت بدايات السادات تفاصيل عكست المواجهة بين السادات والمجموعة الاشتراكية في السلطة، التي كانت معروفة باسم مراكز القوى، وانتصر فيها السادات، وهي ليست موضوعنا الآن، وتوالت المحطات النضالية أو الاحتجاجية التي خاضها الشعب المصري منذ هذا التاريخ كالاتي:
في يناير / كانون الثانيمن عام 1972 تفجرت حركة طلابية، وكان مطلبها الأساسي إنهاء حالة اللاسلم واللاحرب مع إسرائيل وخاصة أن «السادات» كان قد أكد في عدة خطابات له أن عام 1971 هو عام الحسم، وخرجت مظاهرات الطلاب تنادي بالقتال مع إسرائيل وتحرير الأراضي المحتلة، وغلب على هذه المظاهرات الطابع اليساري وكان من قادتها طلاب يساريون منهم على سبيل المثال، أحمد عبد الله رزة، وأحمد بهاء الدين شعبان، وجلال الجميعي، وزين العابدين فؤاد، وشوقي الكردي.
في نهاية عام 1972 توقع نظام السادات تكرار الانتفاضة بسبب عدم خوض الحرب والوفاء بوعد الرئيس فيما يخص عام الحسم، فقام الأمن في 29 ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام بأكبر حملة اعتقالات بين المثقفين والطلاب والكتاب والصحافيين المعارضين للنظام، وهو ما أدى إلى اندلاع انتفاضة في يناير / كانون الثاني 1973. واعتصم الطلاب في جامعتي عين شمس والقاهرة، واتسمت هذه المواجهة بالعنف حيث اقتحم الأمن لأول مرة الحرم الجامعي في 11 يناير/كانون الثاني  1973، وكان هذا الاقتحام حدثا كبيرا في ذلك الوقت فقد كان تراث الجامعة لا يسمح بدخول الأمن ولا وجود أفراد أمن داخل الحرم الجامعي، غلب على هذه المظاهرات الرؤية اليسارية والقيادة اليسارية.، وفي أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام قامت حرب 1973 بتفاصيلها الكثيرة وهي موضوع آخر.
وما بعد حرب 1973 وحتى نهاية عام 1976 لم يتوقف صعود حركة المعارضة المصرية التي كان يغلب عليها الطابع الشعبوي الجماهيري، وتسيطر على توجهها القيادات اليسارية سواء كانت طلابية أو عمالية أو مثقفين، والملاحظ أن الاتجاهات الإسلامية والوفدية  التي عانت من قمع الستينيات مع اليساريين لم يظهر لها أي دور في هذه الفترة، ولنحتفظ بهذه المعلومة لنهاية المقال فسنحتاج لها.
ما علينا، اختلفت هذه الاحتجاجات عن سابقتها بأنها كانت ترفع مطالب اقتصادية واجتماعية بعد أن ارتفعت تكاليف المعيشة عقب حرب 1973 رغم النصر الذي طالما تشدق به النظام، ووصلت قمة الأزمة الاقتصادية والمعيشية عام 1976.
وفي يناير 1975 خرج عمال المصانع الحربية في حلوان احتجاجا على تردي الأحوال المعيشية وتدني الأجور، وبعدها بشهرين شهدت المحلة الكبرى إضرابا كبيرا، اعقبهإضرابات لعمال نسيج الإسكندرية وشركة الكابلات في شبرا الخيمة، وعمال النقل البري، وعمال مصانع كفر الدوار، وشهد عدد من المحافظات عددا من الاحتجاجات والمظاهرات في نفس العام، ويرجع البعض حماس العمال لإحساسهم بتجاهل نظام السادات لكل المكتسبات التي حصلوا عليها في الستينيات، وشعروا بنيته الإجهاز عليها.
وفي عام 1975 قلق أنور السادات من تصاعد حركة اليسار المصري في الشارع وبين الطلاب والعمال المصانع، فلجأ بإيحاء من مستشاره محافظ أسيوط آنذاك محمد عثمان، إلى الجماعات الإسلامية الكامنة للحد من النمو اليساري الذي كان السادات يكرهه طوال سنوات عمره، وهنا بدأت جماعات إسلامية في الظهور في الجماعات ولكنها لم لم تتفاعل مع أي موضوعات سياسية بقدر ما كانت جماعات دعوية، من ناحية، ومجموعات تصدي لنشاط الجماعات اليسارية من ناحية أخرى، وكانت شعارتها تعكس تماما مهمتها في هذه المرحلة ومن هذه الشعارات «في سبيل الله قمنا، نبتغي رفع اللواء، لا لحزب قد عملنا نحن للدين فداء، فليعد للدين مجده، أو ترق فيها الدماء»، ومن شعارتها أيضا «إسلامية إسلامية، لا شرقية ولا غربية»، ولكن لم يستمر الوضع ثابتا فانقلب السحر على الساحر كما سنرى.
في عام 1976 وتحت ضغط الاتجاهات الدولية الجديدة، أصبحت فكرة الحزب الواحد فكرة غير مقبولة عالميا، وخاصة أن أنور السادات كان يتجه نحو الانفتاح على الغرب، وتحديد علاقة مصر بالاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، فأعلن المنابر السياسية كخطوة نحو التعددية الحزبية وهي منبر اليسار ومنبر اليمين ومنبر الوسط الذي يمثل الحكومة، وتحولت المنابر في عام 1977 إلى أحزاب (حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي (اليسار)، وحزب الأحرار الاشتراكيين(اليمين)، وحزب مصر(الوسط)، وبعدها حل حزب الوسط نفسه وأصبح الحزب الوطني الحاكم، الذي كان فعليا أقوى من الاتحاد الاشتراكي فترة الحكم الناصري، لسنا بصدد مناقشة تفاصيل هذه المرحلة في هذا المقال.
الشاهد في هذا الجزء من المقال وفيما يتعلق بسؤال ما العمل هو أن كافة الفرق السياسية التي فشلت في الحفاظ على وجودها عقب حركة يوليه/ تموز 1952، عادت للواقع السياسي بإرادة الجماهير عقب هزيمة 1967، بعد أن انتزعت الجماهير حقوق التظاهر والتعبير، والذي فشلت الأحزاب والأيدولوجيات في الحفاظ عليها، فهل حافظت الفرق والأيدولوجيات على علاقاتها بالجماهير والشعب أم انفصلت عنهم وخانتهم، وكيف تحقق التراكم الثوري الذي أدى إلى ثورة 2011 التي زلزلت عرش مبارك، هذا ما سنناقشه في الجزء الثاني من المقال.



ليست هناك تعليقات: