قرارات «تافهة» غيرت مجرى التاريخ
ولم يعد كما كان إلى الأبد!
ليس الأمر كما نظن؛ فمسار التاريخ لا يتحدد فقط بقرارات كبرى مصيرية تصدرها جهات سيادية، ولا توجهه تداعيات الأحداث العالمية الكبرى وحدها، وإنما قد ترسم ملامحه قرارات ’تافهة‘، يصدرها أناس عاديون في لحظات مختلَسة من عمر الزمان.
المروءة تغير اللغة الإنجليزية
أصاب الإعياء والأحباط قوات الفايكنج، وباتت حملتهم مهددة بالفشل. إزاء ذلك طلب القائد النرويجي، تريجفاسون، مقابلة بيرتنوث، وشكى إليه أن حبس جنوده بهذه الطريقة لا يتفق مع مبادئ الجندية وأصول المواجهات العسكرية النبيلة.
وافقه بيرتنوث، الذي كان يتسم بالشهامة، وسمح لجنود الفايكنج بعبور الجسر الضيق دون مضايقة، حتى يتسنى للقوات المتناحرة خوض معركة ’نبيلة‘ وجها لوجه. وبعد أن شكر الفايكنج لمضيفيهم نبل أخلاقهم، سارعوا بإعمال سيوفهم فيهم بلا هوادة، وذبحوهم حتى آخر رجل منهم.
رغم انتصار قوات الملك الإنجليزي في هذه المعركة إلا أن الساكسونيين تعرضوا لحالة من الإعياء الشديد أدت إلى هزيمتهم بعد 19 يوم فقط أمام النورمانديين الذين سعوا إلى طمس معالم الثقافة الإنجليزية واستبدالها بالثقافة النورماندية، بما في ذلك استخدام النورماندية الفرنسية كلغة ’رسمية‘؛ وهو ما أدى إلى تعرض اللغة الإنجليزية لهزة عنيفة، وتقلصت كلماتها الساكسونية الجيرمانية لحساب الكلمات النورماندية الفرنسية.
.. تأخير غسل الصحون يتسبب في هزيمة دول المحور
كان من الطبيعي أن يكون قرار عالم الجراثيم، ألكسندر فليمنج، بترك بعض الأطباق التي تناول فيها وجبة غدائه غير نظيفة في مغسلة مطبخه – قبل أن يذهب لقضاء أجازته – أكثر القرارات ’تفاهة‘ في تاريخ الطب البشري، لولا أنه أدى إلى واحد من أهم الاكتشافات التي غيرت مجرى تاريخ العالم.
فلدى عودته إلى مختبره وجد فليمنج شيئا غريبا ينمو في الأطباق. كان هذا العفن يحتوي على خصائص المضاد الحيوي، وهو ما أدى إلى اكتشاف البنسلين.
استخدمت قوات الحلفاء هذا العقار في النصف الثاني من الحرب العالمية الثانية للوقاية من الغرغرينا وتسمم الدم، بينما فشلت المؤسسات الصحية في دول المحور في إنتاج كميات كافية من هذا العقار، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات الوفاة بصورة ملحوظة في صفوف جنودها، وأسهم في هزيمتها.
فنان مغمور يغير مسار الحفاظ على البيئة
يتشكل التاريخ أيضا عبر أحداث يصنعها أشخاص أقل شهرة من عالِم في مجال الجراثيم، أو حتى قائد ساكسوني في قرية نائية.
ففي عام 1933 قرر فنان بريطاني موهوب في الرابعة والعشرين من عمره، يدعى بيتر سكوت – وهو ابن المستكشف، روبرت فالكون سكوت – رسم لوحة من داخل مبنى ناء ومتصدع، على بعد ثلاثة أميال من منطقة المد والجزر، حيث تلتقي مقاطعتي نورفولك ولينكولنشاير الإنجليزيتين.
ترسم العزلة التي يتسم بها المكان، إضافة إلى الحياة البرية التي يكتنفها، لوحة طبيعية بديعة لم يقف تأثيرها على إلهام سكوت مجموعة من الأعمال الفنية فحسب، وإنما خلقت منه أهم محافظ على البيئة في تاريخ العالم.
لم يمض وقت طويل على ارتياد سكوت هذا المكان، حتى تحول إلى مناصر قوي لقضايا البيئة، وشارك في تأسيس منظمة “الاتحاد الائتماني للطيور البرية والأراضي الرطبة” Wildfowl and Wetlands Trust، ومنظمة “الصندوق العالمي للحياة البرية” World Wildlife Fund (التي تعرف الآن بـ “الصندوق العالمي للطبيعة” World Wide Fund for Nature).
أسهم سكوت أيضا في حظر صيد الحيتان لإغراض تجارية، وهو ما أدى بدوره إلى صياغة “القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض” Red List of Threatened Species. كما قام بتأليف أكثر من 20 كتابا، وتقديم البرنامج التليفزيوني الشهير Look، الذي ناقش قضايا البيئة على مدى 26 عاما، وهو ما جعله أكثر المحافظين على البيئة تأثيرا في التاريخ.
قادت تجربة سكوت في المنارة المهجورة إلى تحولات كبرى إلى درجة جعلت المهتمين بقضايا البيئة في العالم يعلقون لافتة (لا تزال موجودة حتى اليوم) على بقايا المبنى المتهالك من الخارج تحمل عبارة: “المبنى الأكثر أهمية في تاريخ المحافظة على البيئة في العالم” The most important building in the history of global conservation.
ثورة 1919: حدث غيّر مجرى حياة المصريين
وكان مُلهمــا للعرب
“هز الهلال يا سيد، كراماتك لأجل نعيد.. يكفى اللي حصل، كام يوم ووصل، بقى زرع بصل.. ياما شفنا من الستات، طلعوا وعملوا مظاهرات.. هز الهلال يا سيد، كراماتك لأجل نعيد”.
تلك الأنشودة التي كتبها بديع خيري ولحنها وتغنى بها فنان الشعب سيد درويش، احتفاء بثورة 1919، عادت وعاد صداها يتردد، مع إحتفال مصر، بمرور مائة عام على هذه الثورة الأم. غير أن هذا الاحتفال من قبل كثير من المثقفين المصريين، والعديد من الهيئات والمؤسسات الثقافية-الرسمية منها وغير الرسمية- جاء مصحوبا بطرح تساؤل –يبدو خبيثا- من قبل البعض،هل تستحق ثورة 19 أن يتم الاحتفاء بمرور مائة عام عليها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق