الأربعاء، 3 أبريل 2019

رواية "يوتوبيا" كيف تنبات بما يحدث للمصريين الآن..فيديو



المواطن اليوتوباوي ومملكة "الكومباوندات"



"كأنه الملصق الشهير القديم لفيلم الفصيلة .. هذا ما جال بذهني وقتها.. وليام دافو ينظر إلى السماء - التي لم يعد يفصله عنها شيء - رافعا ذراعيه كأنه في صلاة أخيرة، وقد جثا على ركبتيه بعد ما مزقته الرصاصات .. عندما يصير الموت أكبر من الحياة ذاتها.. عندما يصير الموت ضربا من الجمال الفني ..
رأيته وهو يتوقف وقد أنهكه التعب، بفقر الدم والجوع اللذين يفتكان به لا يمكنه أن يخوض هذه المطاردة للنهاية .. رأيته ينحني ليلصق كفيه بركبتيه طلبا للهواء، ثم رأيته ينظر لأعلى بينما الهليكوبتر تدور حوله في تؤدة ودون قلق.. إن معها كل الوقت.. لا يوجد هدف أوضح من رجل مجرد من السلاح وسط رمال الصحراء.. رجل أنهكه الركض.. رجل أنهكه الجوع.. رجل أنهكه القنوط..."


روايـة "يوتوبيـا" كيـف تنبات بما يحــدث للمصــريين الآن


هكذا يفتتح الطبيب والمترجم والكاتب والأديب الراحل أحمد خالد توفيق روايته "يوتوبيا" معتمدا على الانتقال بين المشهد الرئيسي في فيلم "الفصيلة" (Platoon) وبين مشهد يُلخّص قصة روايته "يوتوبيا". 
للوهلة الأولى، لا يبدو الفيلم الذي يدور حول لقطة من حياة كتيبة من الجيش الأميركي في حرب فيتنام 1968، ينفجر بداخلها صراع بين قائدين حول تصورهم للحرب ومعاملتهم للفلاحين الفيتناميين، فينتهي الصراع أن يطلق أحدهما النار على الآخر مستغلا وقوع الكتيبة في كمين للجيش الفيتنامي، ثم تنسحب الكتيبة بالطائرات الهليكوبتر فيرى أفراد الكتيبة قائدهم الذي حسبوه قد قُتل وهو يفر ويطارده الجيش الفيتنامي، وهو يصارع الموت والقتل ويسقط رافعا ذراعيه للسماء في مشهد مهيب، لا يبدو هذا الفيلم يشبه الرواية في شيء، إلا أن هذا المشهد قد لخص جوهر الرواية وفكرتها الأساسية.
 تدور رواية "يوتوبيا" التي صدرت عن دار ميريت عام 2008 وتقع في خمسة فصول مقسمة بين "الصياد والفريسة" في المستقبل، مستقبل حدده العراب بعام 2020، في هذا المستقبل تنهار الحكومة نهائيا ويهجر الأثرياء ورجال الأعمال وعلية القوم ونخبتهم وادي النيل كله، ويبنون لأنفسهم مستعمرة في الصحراء، تقع في الساحل الشمالي لمصر على طريق إسكندرية-مطروح، مستعمرة تشبه إلى حد كبير مدن "الكومباوندات" التي توجد حول صحراء القاهرة الآن، وتشبه إلى حد أكبر العاصمة الإدارية الجديدة التي يبنيها السيسي في صحراء مصر الشرقية بآلاف المليارات.
 ... روايـــة "يوتوبيـــا" ...


ويتحوّل كل ما هو خارج تلك المدينة إلى برية موحشة، فينقسم العالم كله إلى نصفين، النصف الأول هو "يوتوبيا" وأهلها، والنصف الثاني هو "أرض الأغيار" وهي القاهرة والمحافظات القديمة ومن بقي عليها، إلا أن ما أراد أن يقوله العراب -وربما لم ينتبه له أحد- نظرا لقسوة الملامح التي رسمها المؤلف لذلك المستقبل، إن هذين النصفين ليسا نصفين منفصلين وإنما يكمل أحدهما الآخر، فرغم الانقسام الطبقي الحاد الذي رسمه العراب في تلك الرواية والذي يرتفع كل يوم في مصر محققا نبوءته فإن جوهر العالمين هو نفسه، جوهر من الانتهازية والنفاق وانعدام الأخلاق.
لذلك يلخص مشهد فيلم "الفصيلة" (Platoon) فكرة الفيلم، الفكرة التي قالها بطل الفيلم في النهاية، إن العدو بالنسبة للكتيبة الأميركية لم يكن الجيش الفيتنامي بل كان داخلهم، وعندما سقط وليام دافو وهو يحاول الهرب من الجيش الفيتنامي وفوقه طائرات تحمل كتيبته المهزومة، كان يلخص العالم الجديد، الذي يحكمه "المشهد" بينما يراوغ جوهره حول الفراغ، معلنا سقوط القيم والأخلاق واعتلاء الصراع كقيمة عظمى، بينما يبدو الموت هو الحقيقة الوحيدة في ذلك العالم الهش، وهو النتيجة الحتمية لشكل التعايش الوحيد الذي تحدده أدوار"الصياد والفريسة".
يوتوبيا وديستوبيا.. طباق متضاد
"حقا إنني أعيش في زمن أسود..
الكلمة الطيبة لا تجد من يسمعها..
الجبهة الصافية تفضح الخيانة..
والذي ما زال يضحك..
لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب..
أي زمــن هـــذا؟"
(برتولت بريخت)
..........
فيــلم الفصــيلة





تساءل الكثيرون عن استخدام العراب خالد توفيق لذلك النص من الشعر المسرحي لبرتولت بريخت، فذهب أحدهم إلى تأثر أحمد خالد توفيق بالثقافة الأوروبية وكثرة اطلاعه بحكم عمله مترجما. إلا أن الرواية نفسها تفصح عن سبب استخدام المؤلف لذلك النص، فالنص يوحي أن الرواية منذ البداية ستلعب على حبال المتناقضات، وسترقص على الدركات بين الجوهر والصورة أو بين صورتين للفكرة نفسها، سيقوم فتى يوتوبيا برحلة يكون فيها الصياد، ليقبض على فريسة سهلة من اللحم البشري عديم القيمة بالقاهرة، فيتحول الصياد إلى فريسة، وتنعكس الأدوار، ثم تعود لتنقلب الأمور مرة أخرى بين الصياد والفريسة، كأنها لعبة مستمرة تُشكّل نظام الحياة في مصر.
ومنذ بداية الرواية يفصح المؤلف عن حقيقة اللعبة، فيوتوبيا ليست إلا موضعا تخيليا، إلا أنه في الوقت نفسه يتلاعب بالمتضادات، فكلمة يوتوبيا تعني حرفيا "اللامكان"، ورمزيتها التي أوحت بها الكلمة منذ كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، ثم مدينة توماس مور، ثم مدينة الشمس لتوماس كامبانيلا، وحتى أطلانطس الجديدة لفرنسيس بيكون، بأنها مدينة الرخاء والسعادة، يتلاعب بها المؤلف ليجعل "يوتوبيا" في روايته مدينة تحقق صورتها، تلك الرفاهية الكاملة في المظهر وتنظيم الشوارع وتوفر البضائع والمجمعات التجارية الاستهلاكية، مدينة تُمثّل مطلق الحرية والرفاهية، بينما في حقيقتها تقوم على نقيض كل ذلك، تقوم على أبشع الجرائم وأشد الفظاعات، تقوم على أكتاف كبار اللصوص والسفاحين والمجرمين، الذين سيطروا على كل شيء في مصر منذ عقود، ثم انتقلوا هربا من القاهرة العفنة إلى مستعمرات في الصحراء.
"يوتوبيا.. المستعمرة المنعزلة التي كوّنها الأثرياء على الساحل الشمالي ليحموا أنفسهم من بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي صارت تحوي كل شيء يريدونه.. يمكنك أن ترى معي معالمها.. البوابات العملاقة.. السلك المكهرب.. دوريات الحراسة التي تقوم بها شركة "سيفكو" التي يتكون أكثر العاملين فيها من "مارينز" متقاعدين.. 
أحيانا يحاول أحد الفقراء التسلل للداخل من دون تصريح، فتلاحقه طائرة الهليكوبتر وتقتله كما حدث في ذلك المشهد الذي لا يفارق خيالي.."
والذي يشبه مشهد فيلم "الفصيلة" (Platoon)، لكن المستعمرة المرفهة تتحوّل في نظر شبابها إلى سجن معزول في الصحراء تحاوطه الأسوار والبوابات الحديدية العملاقة والحواجز الخرسانية، وفي مقابل تلك اليوتوبيا يضع المؤلف صورة "الديستوبيا" أي نقيض اليوتوبيا، ممثلة في القاهرة القديمة وخاصة منطقة شبرا.



"شبرا التي لم أرها إلا في أفلام السينما.. خليط عجيب من الروائح والأصوات والمشاهد.. الرائحة الأولى والرئيسية هي رائحة العرق.. في هذه الرائحة ذابت روائح غريبة من المأكولات والوحل والفضلات البشرية وربما الدماء.."
يضع المؤلف تلك الصورة في مقابل صورة يوتوبيا، لتصبح صورة مضادة وكذلك مدينة مضادة بتعبير الفيلسوف الفارابي، مدينة تقوم على الخوف والنذالة تمارس سحر الشرور الأسود. إلا أن هاتين الصورتين اللتين رسمهما الكاتب متضادتين شكلا قد جعلهما على قلب جوهر واحد، جوهر من النفاق والعدم، فيوتوبيا مدينة تقوم على الرفاهية والاستهلاك والحرية الجنسية والمخدرات يغلفهم بعض الورع، كما هي عادة المصريين الجمع بين "الثراء والورع"، ويعيش سكانها مظاهر القيم، كمشاهد سينمائية شكلانية لا تتصل بأي قيمة جوهرية حقيقية، يشرح أحد أبطال الرواية من سكان يوتوبيا هذا الأمر فيقول:
"نحن أسرة واحدة.. إلخ.. للمرة الألف.. أتحدى أن تجد عاطفة واحدة سبيلها إلى هذا الوجه الميت المتصلب.. عينان ميتتان تذكرانك بعيون القتلة في ذلك العالم الخارجي عندما تقتنصهم عدسات الكاميرا.. رجل يقتل زوجته وعشيقها ثم يجلس على المقهى.. امرأة تقتل طفلة من أجل قرط لا يساوي أكثر من مئة جنيه.. ثم تظهر الصورة في صفحات الحوادث.. عندها سوف ترى هاتين العينين.."
وكما سقطت الحكومة وانسحبت نهائيا من القاهرة القديمة، فكذلك مجتمع يوتوبيا ليس له حكومة، بل هو مجتمع يحل مشاكله بالجلسات العرفية.
"جلسة عائلية تضم علية القوم في يوتوبيا، فهذا المجتمع قد أفرز قوانينه الخاصة ومحاكمه، هناك شاب قد أخطأ أو فعل ما يوجب حنق الكبار عليه.. الأخطاء هنا هي أن تدمر الملكية الفردية لآخر من يوتوبيا أو تسطو عليها.. "راسم" قد أفرط في الشراب فدمر جزءا من من مول "إليت" الخاص بمصطفى بك.. ربما سرق شيئا.. لا أحد بحاجة إلى السرقة، لكنك بحاجة إلى إثارة وتوتر وإثم السرقة.. الكلبتومانيا أو داء الولع بالسرقة هو سبب أكثر الجرائم هنا، والباقي يحدث في لحظة سكر بين أصدقاء لم يعودوا كذلك.. لحظة جنون"
كما يصف هذا الشاب مدى النفاق والفساد الذي تعيش فيه مستعمرة "يوتوبيا" فهو كذلك يصف منطقة شبرا عندما وصلها ليبدأ رحلة صيده قائلا:
"الخلاصة التي توصلت لها بعد دقيقة في هذا العالم هو أن هؤلاء القوم يتظاهرون بأنهم أحياء.. يتظاهرون بأنهم يأكلون لحما ويتظاهرون بأنهم يشربون خمرا، وبالطبع يتظاهرون بأنهم ثملوا وأنهم نسوا مشاكلهم.. يتظاهرون بأن لهم الحق في الخطيئة والزلل.. يتظاهرون بأنهم بشر.."
"الآن فقط أفهم لماذا عزلنا أنفسنا في يوتوبيا.. لم يعد في هذا العالم إلا الفقر وإلا الوجوه الشاحبة التي تطل منها عيون جاحظة جوعى متوحشة.. منذ ثلاثين عاما كان هؤلاء ينالون بعض الحقوق، أما اليوم فهم منسيون تماما.. حتى الكهرباء والماء مشكلة فردية لكل منهم.. من استطاع أن يحصل على مولد أو يحفر بئرا فبها ونعمت، وإلا فعليه أن يتحمل..".
 إلا أن هذه الوجوه الشاحبة ما زالت ضرورية، كما يقول المؤلف على لسان الفتى الصياد:
"نعم هناك عمال في يوتوبيا لأن هناك أعمالا لا نستطيع القيام بها.. يأتون صباحا بحافلة خاصة ويعودون بها ليلا، وهم تحت المراقبة في كل الظروف.. لا يتكلمون ولا يرفعون عيونهم لكنك تشم منهم خليطا مزعجا من المقت والخبث والتملق والغضب المكبوت والرائحة الكريهة.. سنوات من القهر جعلتهم أقرب إلى الوحوش.. يوما بيوم يفقدون جزءا من آدميتهم حتى صاروا كائنات مريعة بحق.."
 المدينة القديمة والمدينة الجديدة وجهان لجوهر واحد، وطرفا نقيض لخيط واحد، وتاريخ خراب المدينة القديمة وتعفنها، وتاريخ ازدهار المدينة الجديدة وصعودها هو التاريخ نفسه الذي يفصح عن فكرة صاغها تيموثي ميتشيل ..
 عن تغلغل الاستعمار في العمران المصري، فأمست مصر تتكون من مناطق قديمة فوضوية فقيرة مهملة، ومناطق منظمة يتجلى فيها النظام والعقلانية على أوضح ما يكون، لكن لبقاء المناطق الأخيرة يلزم بقاء المناطق القديمة كما هي، فكما يقول المؤلف:
"هناك خلل اجتماعي أدى إلى ما نحن فيه،
... لكنه خلل يجب أن يستمر.. 
كل من يحاول الإصلاح يجازف بأن نفقد كل شيء"
والخلل ليس فقط لتكون المدن القديمة صورة معكوسة للمدن الجديدة تظهرها وتجمّلها، بل لتكون تلك المناطق القديمة هي الدعامات الاقتصادية للمدن الجديدة. وتكون النتيجة هي ظهور الهوية الوطنية الجديدة، وطنية "الكومباوندات" التي تحتقر كل ما سواها بل وتدعو لحرق باقي البشر الأقل منهم درجة وإبادتهم جميعا.
...المواطن اليوتوباوي ومملكة "الكومباوندات"...
يذكر زيجمونت باومان في كتابه "الحداثة السائلة" أن شارن زوكين قد استشهدت في كتاب "مدينة الكوارتز" الذي صدر عام 1990 للكاتب مايك ديفس، لتصف الوجه الجديد للفضاءات العامة في مدينة لوس أنجلوس بعدما أعادت رسم معالمها الاحتياجات الأمنية للسكان ونوابهم، فقالت:
"لا ينقطع أزيز طائرات الهليكوبتر فوق سماء الغيتوات (الأحياء) القريبة، ويشتبك رجال الأمن مع المراهقين ظنا بأنهم ينتمون إلى عصابة ما، ويستأجر الناس حراسا مسلحين لحماية منازلهم، ومنهم من يمتلك الجرأة ويحمل السلاح ويحمي منزله".
ويعلق باومان قائلا:
"وهكذا فإن الأبعاد الرئيسة للتطور الحالي الذي تشهده حياة الحضر تتمثل في مجتمع يستمد هويته من حدوده المنيعة وحراسته الشديدة لا من موضوعه وفكره ورسالته، وفي اختزال فكرة "الدفاع عن المجتمع" في استئجار حراس مسلحين يراقبون مداخل المدينة، وفي التعامل مع كل مُطارد أو متسكع باعتباره العدو الأول للمجتمع، وفي اختزال المناطق العامة في جيوب ذات مداخل محددة، وفي الانفصال والانعزال بدلا من الاتفاق على مساحات مشتركة للحياة، وفوق كل ذلك تجريم ما تبقى من الاختلاف بين الناس" .
 وهذا بالضبط ما حدث لسكان "يوتوبيا"، فيصف ذلك الفتى الصياد من سكان يوتوبيا قائلا:
"ستة عشر عاما من عمرك وأنت لا تنتمي إلا إلى يوتوبيا.. أنت مواطن "يوتوباوي" ذوّبتك الحياة المترفة وذوّبك الملل، فصرت لا تعرف الأميركي من المصري من الإسرائيلي.. صرت لا تعرف نفسك من الآخرين.. لولا بقايا الشهوة في عروقك لما عرفت الذكر من الأنثى"
 يعيش سكان يوتوبيا حياة مترفة بلا أي قيود ولا أي قيم، فيقعون في دوامة من العدم، فماذا تفعل عندما تكون قد فعلت كل شيء وجربت كل شيء، وكل شيء متاح، ومتوفر، لا يوجد عمل ولا دراسة، لا تريد أي شيء في الحياة، ليس لديك أحلام، فكل شيء متوفر سابقا.
"أصحو من النوم.. أفرغ مثانتي.. أدخن.. أشرب القهوة.. أحلق ذقني.. أعالج الجرح في جبهتي ليبدو مريعا.. أضاجع الخادمة الأفريقية.. أتناول الإفطار.. أصب اللبن على البيض وأمزق كل شيء بالشوكة.. ألقي بالخليط المقزز في القمامة.. أتثاءب.. أضحك.. أبصق.. ألتهم اللحم المحمر.. أدس إصبعي في حلقي.. أدخل غرفة نوم لارين لأفرغ ما بمعدتي على البساط.. أضحك.. أدس إصبعي في أذني.. آخذ زجاجة ويسكي من البار وأجرع منها.. أرقص.. أترنح.. أقف فوق أريكة.. أتقلب على البساط.. أقرأ الجريدة التي لا تزيد على اجتماعيات يوتوبيا.. كل مستعمرة لها جريدتها الخاصة لكن هناك جرائد عامة لا نستطيع قراءتها لفرط ما فيها من سخف..



أخرج أنبوب الفلوجستين.. أصب قطرات على جلدي.. أنتشي.. أرى النيران الخضر.. أضحك.. أمشي عاريا في الردهة.. ألبس ثيابي.. أرسم على الجدران بقلم الفحم شعارات تقول: اقتلوا البيض.. لا أعرف معنى هذا ولا من هم البيض لكنهم هكذا يفعلون في السينما.. أشغل بعض موسيقى الأورجازم.. الإيقاع الجديد الذي ظهر منذ عام.. الكبار يشعرون أنه مجرد صراخ مجنون ويترحمون على إيقاعي الهيفي ميتال والديث ميتال الراقيين اللذين اندثرا.. أرقص.. أقيء.. آكل من جديد.. ساعة واحدة فعلت فيها كل شيء ولم يبق شيء في الحياة يهمني أو أريده!!!"
يعبث المؤلف بمفهوم المدينة الفاضلة المستوحاة من كلمة "يوتوبيا"، وبمعاول السرد التوثيقي لحياة ذلك الشاب "اليوتوباوي" يحطم الكاتب هويته الحديثة إلى فتات من القيء، يلقيه المؤلف في وجه "فلسفة التقدم" ووعودها بعالم يسكنه إنسان سعيد في ساعات العمل وفي ساعات الفراغ، يعرف مكنون نفسه، ويسيطر على ما يحيطه من طبيعة . 
يسخر خالد توفيق من كل تلك الثرثرة، ويضع أمامها حياة عدمية لشاب طائش، بل يذهب توفيق أبعد من ذلك ساخرا من كل محاولات فلاسفة الاجتماع لإسقاط نظرياتهم على ذلك الواقع قائلا في موضع آخر عن استمرار المدينة القديمة في الوجود رغم ما حل بها من خراب:
"وهو ما يثبت لك أن ماركس أحمق على الأرجح عندما تصور أن التوازن سيأتي في لحظة لا يعود فيها الفقراء قادرين على الشراء"
كما أن الملل والعدمية التي يعيش فيها شباب "يوتوبيا" يدفعهم باستمرار نحو أي إثارة: عراك، مطاردات سينمائية بالسيارات، تعاطي المخدرات بكثرة، ممارسة الجنس حتى الملل، وأخيرا تجربة الصيد، وهي أن يخرج شاب من المستعمرة إلى القاهرة القديمة ويقوم بصيد شخص من هناك وقتله ويعود للمستعمرة مع تذكار بشري عبارة عن جزء من جسد الضحية يقوم بتحنيطه ليثبت أنه قام فعلا بعملية الصيد.
 الفريسة.. حياة عامة الشعب
"والآن يا صغيرتي انظري لي واتلي صلاتك الأخيرة
إن عناقي المشبوب سوف يهشم ضلوعك.. سوف أعتصر روحك ذاتها..
عندما تصعد إلى السماء مهشمة تستند إلى عكازين..
سوف تسألها الملائكة عما حل بها
ستقول: لقد نمت مع الشيطان ذاته..
الشيطان الذي أثملته صرخات العذارى قبل الذبح.."
(من أغاني الأورجازم)
"أنا ضعيف جدا.. فقط أتظاهر بأني أتقاتل على طريقة "كلب الزفة"، لكني أعرف حدودي وأعرف أنني لهذا السبب بقيت حيا.. يجب أن تلتصق بالعصابات.. تلتصق بالأقوياء الذين يأخذون ما يريدون.. يجب أن تكسب مودتهم وتقنعهم أنك ضروري لهم، لكن لا تلتصق بهم أكثر من اللازم فتفقد حياتك عندما يفقدونها"
هذه هي الحكمة التي تعلمها جابر، البقايا الباقية من شخص متعلم يعيش في شبرا في زمن الخراب، أما كيف حل ذلك الخراب، فيقول جابر:
"لا أعرف.. يشبه الأمر مراقبتك للشمس ساعة الغروب.. لا تعرف أبدا متى انتهى النهار وبدأ الليل.. متى بهت الضوء وبردت الأشياء.. ومتى تسرب دم الشفق الأحمر يلوث الأفق، ولا متى ساد اللون الأرجواني كل شيء.. لا يمكنك أن تمسك لحظة بعينها.. ليس بوسعك أن تقول: هنا كان النهار وهنا جاء الليل"
"فقط أذكر أن الأمور كانت تسوء بلا انقطاع.. وفي كل مرة كان الفارق بين الوضع أمس واليوم طفيفا، لذا يغمض المرء عينه كل ليلة وهو يغمغم: أهي عيشة.. ما زالت الحياة ممكنة.. ما زال بوسعك أن تجد الطعام والمأوى وبعض العلاج.. إذن ليكن.. ثم تصحو ذات يوم لتدرك أن الحياة مستحيلة، وأنك عاجز عن الظفر بقوت غد أو مأواه.. متى حدث هذا؟ تسأل نفسك فلا تظفر بإجابة.."
ورغم ما حل بالقاهرة وما حولها من خراب، رغم تلك الحياة التي يصفها جابر بحياة "الكلاب الذين يتصارعون على العظمة"، يصر جابر على الحلم:
"لا يتحمل الحياة بلا أحلام.. منذ طفولتي لم أجرب العيش بلا أحلام.. أن تنتظر شيئا.. أن تُحرم من شيء.. أن تغلق عينيك ليلا وأنت تأمل في شيء.. أن تتلقى وعدا بشيء"
يرفض الزواج، فماذا يفعل الحب وسط كل ذلك الخراب:
"إن الناس يجب ألا تتزوج إلا لكي تأتي للعالم بمن هو أفضل.. طفل أجمل منك، أغنى منك، أقوى منك. ما جدوى أن يتزوّج الشّقاء من التّعاسة؟ الهباب من الطّين؟ ما الجديد الّذي سنقدّمه للعالم سوى المزيد من البؤس"
   يستمر جابر في القراءة:
"يصمم أن يقرأ.. يبحث في القمامة عن كل كتاب قديم فهي أشياء لم تعد تباع.. هذه مزية أن تهتم بأمور لم تعد تهم أحدا.. على الأقل لن يسرقك الآخرون.. هذه الكتب ملقاة هنا منذ سنين بينما لا يمكن أن تترك عود ثقاب من دون أن يأخذه أحد.."
وبينما كانت القراءة والثقافة عند الفتى اليوتوباوي الذي لم يذكر المؤلف اسمه مجرد مخدرات رخيصة:
"إن القراءة بالنسبة لي نوع رخيص من المخدرات. لا أفعل بها شيئا سوى الغياب عن الوعي. في الماضي -تصور هذا- كانوا يقرأون من أجل اكتساب الوعي"
كان الأمر مختلفا عند جابر، فقد كان يرتفع وعيا وحكمة عبر القراءة، تعلم أن يتخلى عن أحلامه الطفولية وأن يعيش واقعه متجنبا الموت لسبب واحد هو رعاية أخته الوحيدة، يتمسك جابر ببعض المبادئ الأخلاقية التي انتهت في عصر الخراب، وعبر القراءة، يكيل جابر الاتهامات لشعبه تارة حنقا خالصا منه، وتارة مستخدما اتهامات قديمة أُشيعت عن المجتمع المصري حتى صدقها الشعب وطبقوها على أنفسهم.
"كنت أقول لهم: "ها أنتم أولاء يا كلاب قد انحدر بكم الحال حتى صرتم تأكلون الكلاب، لقد أنذرتكم ألف مرة. حكيت لكم نظريات مالتوس وجمال حمدان ونبوءات أورويل وويلز، لكنكم في كل مرة تنتشون بالحشيش والخمر الرخيصة وتنامون. 
إن غضبتي عليكم كغضبة أنبياء العهد القديم على قومهم.. ألعنكم"، لكن ما أثار رعبي أنهم لا يبالون على الإطلاق. إنهم يبحثون عن المرأة التالية ولفافة التبغ التالية والوجبة التالية، ولا يشعرون بما وصلوا إليه"
وفي موضع آخر يقول:
"أنا رأيت كل شيء يتهدم.. أنذرتهم ألف مرة ولم يصدقوا أو صدقوا ولم يبالوا.. 
أحيانا أشعر أن المصريين شعب يستحق ما يحدث له.. شعب خنوع فاقد الهمة ينحني لأول سوط يفرقع في الهواء"، وفي جلسات الحشيش يدندن: "اعتقادي أن هناك وعدا آخر.. ثمة شخص جمع الأوغاد والأفاقين وفاقدي الهمة من أرجاء الأرض في وطن قومي واحد هو مصر.. لهذا لا تجد في اليابان فاقد همة.. لهذا لا تجد في ألمانيا وغدا.. لهذا لا تجد في الأرجنتين أفاقا.. كلهم هنا يا صاحبي!"
يعتمد المؤلف في وصفه لعالم الفريسة على ذات اللحن التوثيقي، بل جمع المؤلف عدة إحصاءات عن تعاطي المخدرات والعنف الأسري والمجتمعي ووضعها في متن روايته، وخلف متن الحكاية يعبث الكاتب مرة أخرى بمفهوم "يوتوبيا"، حين يقدم مدينة الفقراء على أنها مدينة قد حققت المساواة الكاملة في الفقر، وكما يساوي الثراء بين سكان المدينة الأولى يساوي الفقر بين سكان "شبرا"، فتتحقق يوتوبيا لكنها مقلوبة ترتسم ضحكة ساخرة على وجهها المشوه...
ثم يعود توفيق ليسرد قصة التضاد والتكامل بين المدينتين مرة أخرى على لسان جابر وهو يوضح الأمر للشاب والفتاة من سكان يوتوبيا:
"بالطبع لا تفهمان شيئا عن الوضع الذي صرنا إليه.. لكني أكره ألا أخبركما بكل شيء.. الصورة التي تريانها كانت موجودة منذ البداية لكن بشكل غير واضح، ثم تضخمت شيئا فشيئا.. يصير الأغنياء أغنى والفقراء أفقر، ثم تأتي لحظة يحدث فيها الانهيار.. ويبدو لي أن هذا حدث في عشر السنوات الأولى من هذا القرن.. فجأة انهار السد.. لم تعد السياحة قادرة على إطعام هذه الأفواه.. إسرائيل افتتحت قناتها التي صارت بديلا جاهزا لقناة السويس.. الدول الخليجية نضب بترولها أو تم الاستغناء عنه بعد ظهور "البايرول" وطردت العمالة الوافدة.. هكذا وجد الاقتصاد عليه عبئا قاصما.. وانعدمت خدمات الفقراء لأن الدولة أعفت نفسها تماما من مسؤولياتهم وخصخصت كل شيء، لم تعد هناك حكومة أو لم تعد هناك حكومة تعبأ بنا.. مع الوقت توقفت الرواتب وتوقفت الخدمات وذابت الشرطة وبالتالي لم تعد علينا ضرائب.. كان آباؤكم من طبقة استطاعت أن تستخدم نفوذها للإثراء.. حسابات مصرفية في الخارج.. قروض من المصارف.. احتكار.. كل شيء كان في مصلحة آبائكم وضدنا على طول الخط.. هكذا استطاعت هذه الطبقة أن تتماسك وتزداد ثراء بينما هوينا نحن إلى الحضيض.."
   "لكن الحياة معنا صارت أمرا مستحيلا.. اضطرت هذه الطبقات إلى أن تعزل نفسها طلبا للأمان في تلك المستعمرات على الساحل الشمالي، وقد استعملوا رجال المارينز لأنهم يضمنون ولاءهم بينما لا يضمنون ولاء البودي جارد المطحون بدوره.. إن فكرة أن يثور محيط الفقر هذا كانت تؤرقهم.. كل الثورات الشعبية في التاريخ بدأت بذبح الأثرياء.. هكذا تكوّن مجتمعان أحدهما يملك كل شيء والآخر لا يملك شيئا.. أهمية المجتمع الثاني لا تزيد على كونه سوقا استهلاكيا لا بأس به.. حتى لو كان يعاني الفقر فإن كثافته السكانية تسمح بكل شيء.. لو ابتاع كل منا زيتونة فلسوف يصير بائع الزيتون مليونيرا".
وينتقل جابر من التوصيف الاجتماعي الاقتصادي إلى التوصيف السياسي عندما سأل فتى يوتوبيا عن وجود إسرائيلين في مدينته:
"هذه سمة مهمة لدى قومك.. لقد اتخذوا موضعهم في الشرق الأوسط الجديد الذي كانوا يتحدثون عنه.. المثلث الذي حلمت به إسرائيل كثيرا.. مال خليجي (قبل أن ينضب).. ذكاء إسرائيلي.. أيد عاملة مصرية رخيصة.. نحن الفقراء لم نكف عن اعتبار إسرائيل عدوا"..

لكن ماذا يحدث عندما يتلاقى غريبان في الخراب؟
  عندما يتلاقى الصياد والفريسة
"الموت.. اللعبة العظمى التي لم نجربها بعـد"

أتى فتى يوتوبيا ومعه فتاته "جيرمنال" من مستعمرتهما ليجربا إثارة مغامرة الصيد، لكن حظهما التعس كاد أن يجعلهما فريسة بين أنياب شباب الخرائب مدمني الكلة، إلا أن جابرا قد أنقذهما وآواهما في بيته، عازما إعادتهما ليوتوبيا.
يصف المؤلف رحلة الشاب وفتاته مع جابر كأنه يعود للعهد القديم، فيستخدم ثيمة الرحلة المعروفة بين النبي موسى والحكيم الخضر، فيقول الشاب لجابر:
"لو ظننت أننا سنبقى هنا للأبد فأنت مخطئ"
فيرد جابر:
"كما قلت، أنتما حُرّان في أن تتصرفا أو تفرا، لكني أعرف ما سيحدث لكما بعد دقيقة.. لو أردتما البقاء معي فعليكما الامتثال التام لكل ما أقوله.. أنا من يضع الخطط ويختار اللحظة المناسبة"
لكن تلك الثيمة المقدسة ستنتهي إلى ثيمة أخرى، ثيمة رحلة دانتي للخروج من الجحيم، فبعد أن يدلهما جابر على نفق في الصحراء للعودة مرة أخرى للمستعمرة، يهوي الشاب على رأس جابر بصخرة فيهشّم رأسه، لأنه مقتنع أن أمثال جابر ممن يقرأون هم أخطر الأغيار.
"ليست الثقافة دينا يوحد بين القلوب ويؤلفها، بل هي على الأرجح تفرقها، لأنها تُطلع المظلومين على هول الظلم الذي يعانونه، وتُطلع المحظوظين على ما يمكن أن يفقدوه"
 جمع أحمد خالد توفيق في روايته بين التوقع والمعرفة، استند إلى أكثر من وثيقة، وانصرف إلى تأمل آفاق "مصر الخالدة"، التي قرأها الراحل جمال حمدان بمقولة "عبقرية المكان"
ثم يقطع ذراعه ليحتفظ به كتذكار، بعد أن اغتصب أخته من قبل في كوخها أثناء غيابه. يصعد الشاب ومعه فتاته جيرمينال من فتحة ضيقة إلى أرض يوتوبيا كأنه دانتي يصعد من الجحيم إلى الجنة بعد أن تطهر من عدميته بقتل جابر واغتصاب أخته، وهذه النهاية لرحلة الصيد هي النهاية الحتمية لالتقاء غريبين في عصر الخراب، كما يشرح ليفي ستراوس:
"إذا درسنا المجتمعات من الخارج، سيكون من المغري أن نميز نوعين متناقضين منها، تلك التي تمارس أكل لحوم البشر وترى في استيعاب بعض الأفراد الذين لديهم قوى ذات خطورة الوسيلة الوحيدة لتحييد هذه القوى بل وتحويلها إلى ميزة، وتلك التي تشبه مجتمعنا، حيث تعتمد ما يسمى ممارسة القيء، وهي تواجه المشكلة نفسها، وقد اختارت الحل الآخر الذي يتمثل في إخراج الأشخاص الخطرين من الجسم الاجتماعي والاحتفاظ بهم مؤقتا أو بشكل دائم في عزلة بعيدة عن كل اتصال مع أقرانهم في مؤسسات أُعِدّت لهذا الغرض خصيصا مثل معسكرات الاعتقال أو معسكرات الموت أو السجون" 
وهو ما يعلق عليه باومان قائلا:
"هناك إستراتيجيتان لا ثالث لهما في التاريخ البشري عند التعامل مع الأغيار، تكمن الإستراتيجية الأولى في تقيؤ الأغيار، ولفظهم بصفتهم غرباء وأجانب لا ينتمون إلى المكان.. وأما الإستراتيجية الثانية فتقوم على الاحتواء أو الالتهام، وذلك باستيعاب الأجسام والأرواح الغريبة وهضمها.. وتتخذ تلك الإستراتيجية أشكالا عديدة متشابهة، تبدأ بأكل لحوم البشر، وتنتهي بالدمج والاستيعاب القسري" 
وهذا الانفتاح على الموت هو ما جعل المؤلف يضيف نهاية تنقلب فيها الأدوار مرة أخرى حين يعلم أهل شبرا قصة مقتل جابر، فيزحفون في الصحراء نحو المستعمرة للانتقام، ربما لم تكن تلك الإضافة ضرورية، لكنها تؤكد استمرار لعبة التناوب على أدوار الصياد والفريسة.
جمع أحمد خالد توفيق في روايته بين التوقع والمعرفة، استند إلى أكثر من وثيقة، وانصرف إلى تأمل آفاق "مصر الخالدة"، التي قرأها الراحل جمال حمدان بمقولة "عبقرية المكان". رأى الروائي "المتشائم" ما لا يريد الوصول إليه"، لكنه قدمه على كل حال، قائلا:

..عندما تشــم رائحــة الدخــان ولا تنذر من حــولك.. 
..فأنت بشكل ما ساهمت في إشعال الحريق..
 . ممثلة في القــاهرة القديمة وخاصــة منطقـــة شـبرا.


بين أصدقــاء لم يعــودوا كـذلك.. لحظــة جنــون



؛؛؛؛ مصـــر الـيـــوم ؛؛؛؛




ليست هناك تعليقات: