الأربعاء، 10 أبريل 2019

من "النايض" إلى "حفتر".. يد الإمارات العابثة في ليبيا


مصر والإمارات شنتا مرتين ضربات جوية ضد ليبيا 
في الأرض والجو: أذرع أبوظبي العسكرية
.. جحور الأفاعي الإماراتية.. 
كيف تعبث أبو ظبي بمصير ليبيا عبر وكلائها؟



جلست الصحافية الأمريكية "آن برنارد" في بهو أحد الفنادق بالعاصمة الليبية طرابلس، بعد أشهر قليلة من نجاح الثورة الليبية في فك قبضة معمّر القذافي، جالسًا إلى جوارها المفكّر الليبي "عارف علي النايض".
وبينما أخذ عارف يحدّثها عن معارفه وكتاباته في مجالات الفلسفة الغربية، ومركزية مفهوم السماحة في الإسلام وإمكانية تعايش المسلمين في ظل دولة ليبرالية علمانية، بدا وكأن "آن" قد انبهرت كثيرًا بحديثه اللبق، وحماسته لإصلاح الكثير في ليبيا، بدءً من نظامها السياسي وحتى شبكات المياه فيها، مما حدا بها لكتابة مقالًا كاملًا عنه في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان "رجل الرب والتكنولوجيا، يحاول إصلاح ليبيا".
  (1) طوال حواره مع الصحافية الأمريكية، أكّد عارف على عدم اهتمامه بالمناصب السياسية، ورغبته بالعودة للتدريس ودعم المشاريع التنموية بليبيا، تمامًا كما فعل دومًا في ظل نظام القذافي لسنوات، وهي نشاطات أثارت لغطًا كثيرًا حوله وحول صلاته بالنظام القديم في الحقيقة، لا سيّما وقد كان والده، "علي النايض"، على رأس شركة إنشاءات تعمل في بناء القواعد العسكرية في عهد القذافي، قبل أن تضع الحكومة يدها على ممتلكاته عام 1978، أضف لذلك الحرية التي تمتع بها "عارف النايض" نفسه خلال سنوات ما قبل الثورة ونشاطاته داخل ليبيا، ومنها ترميم وإحياء مدرسة "عثمان باشا" التقليدية القديمة في طرابلس، وفتح أبوابها للتعليم الديني والحوار بين الأديان. لم تتغير اهتمامات عارف التنموية، بل زادت في الحقيقة بعد الثورة بتأسيسه لمركز ليبيا للدراسات المتقدمة عام 2012، ومركز كلام للبحوث والإعلام عام 2013 بمقريّه في دبي وطرابلس ، بيد أن وعوده بالعزوف عن عالم السياسة كما حدّث الصحافية الأميركية ذات يوم لم تصمد طويلًا بوجه تتابع الأحداث بعد العام 2011، فقد عيّنته أول حكومة بعد الثورة سفيرًا لدى الإمارات، وعلى ما يبدو أن أبو ظبي ارتأت له دورًا أكثر مما أراد هو.



 بعد حوالي خمس سنوات من لقائه بالصحافية الأميركية، بات "عارف" في ضيافة أشخاص أكثر أهمية من مجرد الصحافيين الأمريكيين، فقد استضافه القيادي السابق بحركة فتح الفلسطيني محمد دحلان في اجتماع بالعاصمة الأردنية عمّان في يونيو عام 2016 مع عدد من الشخصيات الإعلامية الليبية لتنسيق حملة إعلامية ضد حكومة الوفاق في طرابلس ، ثم استضافه في مارس 2017 عضو الكونغرس الجمهوري المتطرف ستيف كينغ في اجتماع خاص، وأشار له في تغريدة على موقع تويتر، ملمّحًا لاحتمالية رئاسته مستقبلًا لحكومة ليبيا، وقائلًا بأن "ليبيا تحتاج إليه". 
 يجلس عارف هذه الأيام في مقره بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، كسفير ليبيا رسميًا، والوسيط الأهم لتحالف قوات خليفة حفتر ومجلس النواب في طبرق فعليًا، محاولًا -عبر نفوذ وأموال الإمارات- ترجيح كفة الجنرال الليبي في مواجهة قوات مصراتة والإسلاميين -أو "الفاشيين" كما يسمّيهم -. 
بيد أنه ليس الوسيط الإماراتي الوحيد وإن كان الأهم، فقد اشترت أموال أبوظبي كثيرين، بدءًا من أعوان نظام القذافي سابقًا، وحتى الدبلوماسيين الدوليين أنفسهم.


الإمارات: شراء وسطاء الأمم المتحدة "سأكون في العون بالسيطرة على المفاوضات طوال وجودي هنا، لكنني لا أنوي البقاء طويلًا كما تعرفون.. ويُنظر لي كشخص منحاز لمجلس النواب -في طبرق-، ولذا فقد نصحت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي بالعمل معكم" (برناردينو ليون، مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا سابقًا، في رسالة مسرّبة لوزير خارجية الإمارات) يمتلك الدبلوماسي الإسباني برناردينو ليون سجلًا حافلًا في الوساطة الدولية ولمّ الفرقاء - أو محاولة جلبهم لطاولة واحدة على الأقل- بدءًا من دوره كمستشار لمبعوث أوروبا للسلام بالشرق الأوسط في مطلع الألفية أثناء مفاوضات طابا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ثم مساهمته كوزير خارجية إسبانيا في تدشين تحالف الحضارات عام 2005 والمنصَب على الحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، وحتى عام 2011 حين عيّنته أوروبا مبعوثًا خاصًا لدول جنوب المتوسط إبان الثورات العربية، ليصب اهتمامه على ليبيا بشكل خاص.
 لم تجد الأمم المتحدة أفضل من ليون إذن ليضطلع بمهمة إحداث التوافق في ليبيا بين طرفي الصراع هناك؛ حكومة الوفاق في طرابلس بقيادة فايز السراج مدعومة بقوات مصراتة، ومجلس النواب في طبرق مدعومًا بقوات خليفة حفتر، ليصبح مبعوثها ورئيس مهمتها الخاصة في ليبيا بالفعل بدءًا من أغسطس 2014 وحتى نوفمبر 2015. 
 حين همّ ليون بالشروع في مهمته الصعبة، كان على قناعة بأن السلاح لا يمكن أن يحل الصراع في ليبيا أبدًا، وأن الأمر يتطلب الجلوس مع الجميع والاستماع لهم، بما في ذلك الميليشيات التي تفهّم ليون عدم ثقتها بمؤسسات الدولة الليبية، كما صرّح في حوار مع موقع "دي دابليو" الألماني قُبيل توليه مهمته الأممية، بيد أن كل ذلك تغيّر مع نهاية العام 2014، بعد أن انفتحت قنوات الاتصال بينه وبين الإمارات.
 في يونيو 2015، تلقى "برناردينو ليون" على بريده الإلكتروني عرضًا من جانب دولة الإمارات للعمل كرئيس لأكاديمية دبلوماسية جديدة تم تدشينها مؤخرًا في العاصمة أبوظبي لتدريب الدبلوماسيين الإماراتيين، مقابل 35 ألف جنيه إسترليني شهريًا، بعد أن ينتهي من مهمته الليبية.
خلال شهرين فقط بدأ تبادل الرسائل إلكترونيًا مع أبوظبي حول قيمة بدل السكن الخاص به في أبوظبي، والذي استقر على 96 ألف دولار أمريكي سنويًا.
 [6] لم تُثن مهمة "ليون" ومنصبه والأضواء الدولية المسلطة عليه من عزم الإمارات على محاولة شرائه، وهي مهمة نجحت فيها دون أن تخرج تفاصيلها للنور طوال فترة وساطة ليون في ليبيا، ليُفاجأ الليبيون والمجتمع الدولي بخبر تعيينه بالفعل في نوفمبر حين شرع بترك منصبه واتجه لأبوظبي، وهي مفاجأة خرج ليون مدافعًا عنها ومؤكدًا بأنها لم تتعارض أبدًا مع مهمته الدولية رُغم انحياز أبوظبي الواضح لقوات حفتر. من سوء حظ "ليون"، لم تأت أخبار تعيينه في أبي ظبي منفردة، بل صاحبتها تسريبات لرسائله مع الإمارات طوال 2015 كشفت انحيازاته لصالح حفتر ومجلس النواب تعود لأواخر العام 2014، إذ تقول إحدى رسائله الموجهة لوزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، بأن الأوروبيين والأمريكيين يبحثون عن «خطة بديلة لمفاوضات السلام، مؤتمر تقليدي مثلًا، وهو خيار أسوأ في رأيي من الحوار السياسي، لأنه سيعامل كافة أطراف الأزمة بشكل متساوٍ»، كما قال.


 لم يكن ليون بالطبع على استعداد لمعاملة الجميع بشكل متساو، فقد قال صراحة في إحدى رسائله المسرّبة بأنه "لا يعمل على خطة سياسية تشمل الجميع"، وأنه بصدد "إستراتيجية لنزع الشرعية عن المؤتمر الوطني العام" الذي تستند له حكومة الوفاق، وأنه يعمل على "كسر التحالف الخطير" بين تجار مصراتة الأثرياء والإسلاميين الداعمين لحكومة الوفاق في طرابلس، مقابل تعزيز مجلس النواب المدعوم من جانب مصر والإمارات. 
 مرة أخرى، يطل "عارف النايض" برأسه في تسريبات رسائل "برناردينو ليون"، حيث يذكره المبعوث الأممي السابق بوضوح في رسالة يقول فيها بـ"أن كافة مقترحاتي وتحركاتي تتم بعلم مجلس النواب "أو بتدبير منها في حالات كثيرة" وكذلك بعلم عارف النايض ومحمود جبريل." لم يكن غريبًا أن يرُد عارف النايض الجميل لأمانة ليون في تنفيذ أجندته الخاصة، إذ تشير مصادر دبلوماسية إلى أن النايض هو من اقترح على عبد الله بن زايد وضع ليون على رأس الأكاديمية الدبلوماسية أملًا في زيادة تأثيره على المفاوضات لصالحه، بل وربما اختياره رئيسًا للوزراء. على عكس ما روى "النايض" للصحافية الأميركية إذن، لم يكن "المفكر" الليبي راغبًا في العودة لعالم الفلسفة والتكنولوجيا والرب، بل كان راغبًا في لعب دور القيصر برعاية أبوظبي، وهي رغبة قام من أجلها بدفع الأموال لجماعات ضغط عدة في واشنطن ولندن كي تطرح اسمه لصناع القرار والإعلاميين.
[8] -كما تشي تغريدة ستيفن كينغ المذكورة آنفًا. لسوء حظه -وسوء حظ أبوظبي أيضًا- لم تفلح معركة شراء النصر بالمال، فقد غاب اسم عارف النايض عن القائمة النهائية لمرشحي رئاسة حكومة التوافق -مستقبلًا- التي أعدها ليون أثناء مهمته الدولية، نظرًا لمعارضة شخصيات كثيرة لوجوده بالنظر لمواقفه شديدة التحيّز ضد الإسلاميين ولصالح مجلس النواب في طبرق. بيد أن أبوظبي لم تراهن على الأموال فقط، بل راهنت على فلول نظام القذافي، ومنابر إعلامية عدة، وبالطبع على السلاح. جحور أفاعي الإمارات: وجوه جديدة وقديمة جدًا "لا شك أنني أتمنى رؤية الإسلاميين محظورين بموجب القانون كما حدث في مصر"
  .. (حسن طاطاناكي، رجل أعمال ليبي) ..


في سبتمبر عام 2009، كان القذافي على موعد مع زيارة هي الأولى من نوعها إلى نيويورك، حيث كان مقررًا أن يلقي خطابًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، امتدت في الحقيقة لمائة دقيقة، ولم تخلو من غرائب العقيد المعروفة، حيث قام الرجل بتمزيق الميثاق العام للأمم المتحدة أمام الحاضرين، وشبّه مجلس الأمن بتنظيم القاعدة، وطالب بحوالي سبعة تريليونات دولار كتعويض للبلدان الأفريقية عن زمن الاستعمار
- خلف الستار لم تكن السياسة الليبية بذلك الجنون الذي أبدته للعالم، فقد كانت الزيارة في الحقيقة ثمرة جهود ليبية لفتح نوع من الحوار بين طرابلس وواشنطن تحت ظل إدارة الرئيس الديمقراطي الجديد آنذاك "باراك أوباما".
كان أحد الرجال المهمين في تلك الفترة هو رجل الأعمال الليبي "حسن طاطاناكي"، مالك عدد من برّيمات استخراج النفط في ليبيا، والذي ضخ 575 ألف دولارا لشركة العلاقات العامة "براون لويد غيمز" لتنسيق حملة تغطية جيدة لزيارة القذافي في 2009. كان "طاطاناكي" قد دفع مبلغًا مشابهًا تقريبًا لنفس الشركة بين عامي 2008 و2010 للترويج لليبيا في الخارج، والقذافي بشكل خاص، طبقًا لوثائق الشركة، والتي ساهمت في تنظيم عدد من الخُطب للعقيد، ونشر بعض من مقالاته، وترتيب مقابلات له مع جهات إعلامية، علاوة على تنظيم برامج تبادل أكاديمية للطلاب الليبيين، غير أن جهوده تلك انتهت حين قامت الثورة في فبراير 2011. سرعان ما تبدّلت ولاءات "طاطاناكي"، وتحوّل من رجل أعمال مقرّب للنظام إلى رجل الخير والتنمية بتأسيسه لجمعية ليبيا الحرة الخيرية، والتي أنفقت حوالي 20 مليون دولار على مدار السنوات الست الماضية لدعم اللاجئين داخل ليبيا نتيجة الصراعات المسلحة، علاوة على علاقته بمؤسسة ليبيا الحرة المهتمة بمشروعات التنمية المجتمعية والبنية التحتية، والتي تأسست بعد الجمعية بنفس الاسم في ولاية كاليفورنيا الأميركية.
- بيد أن علاقة طاطاناكي باللوبيات في واشنطن لم تتوقف على ما يبدو، كما يشي بذلك عقد بقيمة 180 ألف دولار وقعته مؤسسة ليبيا الحرة مع مجموعة "فرانكلين بارتنرشيب" للعلاقات العامة عام 2011، وكان هدفه التوعية بدور المؤسسة عن نشاطاتها في ليبيا، والترويج لـ19 مشروعًا أشرفت عليها في ليبيا آنذاك، بما في ذلك توفير الدعم المالي لأهالي مقاتلي الثورة، وتدشين برنامج "للمصالحة الوطنية." حين تبلور تحالف "الكرامة" بقيادة حفتر ومن خلفه أبوظبي، لم يستغرق طاطاناكي وقتًا طويلًا حتى انضم للمعسكر الجديد بالنظر لمعاداته للإسلاميين،
- ومن ثم بات مقرّه الرئيسي بدولة الإمارات، بالإضافة لتدشينه قناة ليبيا أولًا المُعادية للإسلاميين، ثم مشاركته في موجة "الإسلام المعتدل،" إذ تشير مدوّنة مخصصة باسمه لدوره في الترويج للتفسيرات المعتدلة للدين الإسلامي، ومشاركته في تمويل قناة "أزهري" المصرية في القاهرة..


لم يكن غريبًا استقطاب أبوظبي لوجوه عملت مع النظام القديم، مثل "عبد الباسط بن هامل" المُدافع عن القذافي باستمرار، ومؤسس ورئيس تحرير "بوابة أفريقيا" بمقرها في القاهرة، والتي حصلت على تمويل إماراتي فاق مليوني دولار حتى الآن، و"عبد السلام المشري" المقرّب سابقًا من سيف الإسلام القذافي ويدير من لندن قناة "ليبيا 24" المعروفة بهجومها على الثورة الليبية، وحصل هو الآخر على أكثر من سبعة ملايين دولار.
 لكن الغريب كان انجذاب بعض النشطاء أو الإصلاحيين كما يسموّن إلى مدار أبو ظبي أيضًا، وأبرز هؤلاء المعارض السابق للقذافي محمود شمّام صاحب التوجهات الليبرالية، والذي يدير موقع وشبكة راديو "الوسط" من مقرهما في القاهرة، وحصل على حوالي 5 ملايين دولار من الإمارات لتأسيسهما، وكذلك الإعلامية البارزة وقت الثورة هدى السراري زوجها الروائي المعارض مجاهد البوسيفي، واللذين أطلقا قناة 218 من العاصمة الأردنية عمّان بدعم مالي كامل من أبوظبي. من جديد، يُطل عارف النايض برأسه في عالم تحالفات الإمارات، إذ يملك الرجل قناة ليبيا روحها الوطن إتش دي، ويرأس أخوه مجلس إدارتها من العاصمة الأردنية عمّان، وقد حصلت القناة على أكثر من 25 مليون دولار من أبوظبي حتى الآن. يظهر عارف النايض باستمرار إذن، بدءًا من المبادرات العلمية والخيرية وحتى الشبكات الإعلامية وجماعات الضغط في ضفوف الجمهوريين، بيد أن المفكّر والسفير رائد التنمية في آن، ترك بصماته أيضًا في عالم القوة الصلبة. في الأرض والجو: أذرع أبوظبي العسكرية "لو كان لنا أن نقوم بما نقوم به بالـ"طريقة السليمة" -المقبولة من جانب الأمم المتحدة-، سيكون لزامًا علينا إرسال طلب لمجلس الأمن في كل مرة نحاول إيفاد شُحنة أسلحة إلى ليبيا، وهو أمر سيكشف بالطبع مدى ضلوعها بالمشهد الليبي، وسيعرقل مصالحنا هناك" ( جزء من خطاب مسرّب لأحد مسؤولي الخارجية الإماراتية إلى لانا نسيبة سفيرة الإمارات في الأمم المتحدة)


مفاجأة، هكذا أسماها المسؤولون بالبيت الأبيض ممن لم يتعوّدوا أن تسير الحركة في الشرق الأوسط دون علمهم. لقد استيقظت واشنطن على خبر ضربة عسكرية مشتركة بين مصر والإمارات داخل ليبيا في أغسطس 2014 دون إعلامها مُسبقًا -كما جرت العادة بين الحلفاء- نظرًا للتوتر الجاري آنذاك بين أنصار الانقلاب المصري في المنطقة من ناحية، وإدارة أوباما من ناحية أخرى.
أتى التدخل العسكري المباشر غير المعهود من جانب البلدين كمحاولة أخيرة لترجيح كفة قوات حفتر، بعد أن قام الرجل بانقلاب فعلي قبل ستة أشهر، وحظي بدعم مالي مفتوح من أبوظبي، دون أن يتمكن من بسط سيطرته بالكامل كما فعل حليفه المصري في يوليو 2013، ليضطر إلى إعادة المحاولة عبر عملية الكرامة، الممولة من جانب الإمارات أيضًا بحوالي 800 مليون دولار.
 حاول الحليفان، القاهرة وأبوظبي، التملُّص من مسؤوليتهما عن الضربة العسكرية المباشرة، بالإنكار تارة، أو بدفع حفتر إلى التصريح بمسؤوليته عن الضربة تارة أخرى، غير أن الإمكانيات المتواضعة للقوات الجوية التابعة لجيش حفتر، بالمقارنة مع كفاءة الضربة الجوية، لم تدع مجالًا للشك بأن مصدرها لم يكن ليبيًا أبدًا، بل طائرات إماراتية انطلقت من قاعدة عسكرية بغرب مصر. سرعان ما أدركت أبوظبي حاجتها إلى قاعدة عسكرية خاصة بها داخل ليبيا، لا سيّما مع بدء تباين بعض المواقف مع القاهرة بخصوص الحوار بين طرفي الصراع الليبي، وقد حصلت على ما أرادت بالفعل بالتنسيق مع الفرنسيين بعد تخصيص قوات حفتر مطارًا زراعيًا لها في منطقة "الصليعانية" جنوبي مدينة المرج - حيث تقع قاعدة حفتر الرئيسية- لتُرسل الإمارات تباعًا ثلاث طائرات من طراز سي-130 يقودها باكستانيون، علاوة على أربع طيارات فرنسية من طراز ميراج-5.


 لم تكن الإمارات حاضرة فقط في الجو، بل تواجدت على الأرض أيضًا بشكل غير مباشر عبر دعمها لكتائب القعقاع والصواعق، تزويدها بالذخائر والأسلحة المصنّعة جزئيًا في الإمارات، علاوة على دفع رواتب آلاف من المقاتلين المحسوبين على قوات حفتر. تبرز بشكل خاص كتيبة القعقاع بقيادة عثمان مليقطة والمتواجدة بمدينة الزنتان في أقصى الغرب، إذ حاولت عبرها أبوظبي انتزاع العاصمة طرابلس عام 2014 وتثبيت موقع مركزي لتحالف حفتر في أقصى الغرب الليبي -عثمان هو أخو عبد المجيد مليقطة القيادي بتحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل، وكلاهما مقرّب من الإمارات. 
لم تمُر أي من تلك الصفقات بطبيعة الحال برضا الأمم المتحدة أو الجهات الدولية المعنية بالتوافق، فقد تكثف الدعم الإماراتي العسكري لحلفائه على الأرض في نفس الوقت الذي تنامت فيه مساعي حل الأزمة بين عامي 2014 و2016 -بالتزامن أيضًا مع تعيين برناردينو ليون مبعوثًا في ليبيا-، وهي صفقات تعارضت مع الحظر الدولي على تصدير السلاح إلى ليبيا الكائن منذ فبراير 2011 كما ترصد إحدى تقارير الأمم المتحدة المنشورة في مارس 2016.
 يشير التقرير الأممي إلى حصول كتائب الصواعق على عربات مدرعات تنتجها شركة "نمر" الإماراتية، كما تشير لإعادة تصدير أسلحة استوردتها الإمارات من بلغاريا تحت مظلة شركة غولدن إنترناشنال غروب الكائنة في أبوظبي، قد حاولت اللجنة المُعدة للتقرير الاستفسار عن تلك الصفقات من الإمارات دون أن تتلقى أي رد كما هو متوقع.
 في هذا الصدد، نشر التقرير الأممي خطابًا، مسرّبًا على الأرجح، من أحد العاملين بوزارة الخارجية الإماراتية إلى سفيرة الإمارات لدى الأمم المتحدة "لانا نسيبة"، يطالبها بالحذر في التعامل مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة بليبيا واستفساراتها، وملمحًا لاحتمالية انحيازها ضد الإمارات، ومُقرًا في آن بخرق أبوظبي للحظر الدولي على وصول السلاح إلى ليبيا: «تقوم الإمارات في واقع الأمر بخرق قانون مجلس الأمن المتعلق بليبيا، وهي مستمرة في ذلك، وقد تحدثت مع عدد من الأشخاص داخل وخارج وزارة الخارجية، وتبيّن لي أن ملف ليبيا يُدار على مستوى أعلى من الوزارة نفسها" أي من جانب رئيس الدولة، أو بالأحرى ولي العهد والحاكم الفعلي لها «محمد بن زايد»


صورة الرسالة المسرّبة المنشورة في تقرير الأمم المتحدة يشير التقرير أيضًا إلى شكوك حيال رحلات جوية قامت بها شركة الشحن الجوي "فيتران أفيا" (Veteran Avia) ومقرها إمارة الشارقة من قاعدة منهاد الإمارتية إلى ليبيا عبر الأردن في أكتوبر 2014، وقد أنكرت الأردن رصد أية رحلة إماراتية متجهة إلى ليبيا من أراضيها، في حين رفضت الإمارات التعقيب على أسئلة اللجنة الخاصة بليبيا، غير أن البيانات المتاحة للحركة الجوية في المنطقة تثبت بالفعل قيام الرحلات، علاوة على تأكيد أرمنيا -الدولة المُسجَّلة بها شركة الطيران المذكورة- قيام الرحلات باتجاه ليبيا بالفعل، قائلة بأنها كانت محمّلة بـ"المساعدات الإنسانية". 
 تمامًا كما يطُل باسمه في كل مكان، يظهر اسم "عارف النايض" في تقرير الأمم المتحدة، ولكن ليس باعتباره مهتمًا بالتنمية أو حتى مرشحًا محتملًا لرئاسة الوزراء كما يتمنى، بل كأحد الوسطاء في سلسلة إتمام صفقات السلاح المطلوبة من جانب "مجلس النواب" في طبرق لصالح القوات الليبية بقيادة "حفتر"، إذ يقوم السفير بتسلُّم طلبات السلاح من "طبرق" والحصول على الموافقات عليها من أبي ظبي ومن ثم جلبها لحفتر. لا يتوقف دور النايض عند التوسط في تمرير صفقات السلاح بين أبوظبي وحلفائها، بل والتحريض على اغتيال شخصيات سياسية كما ظهر في تسريبات بثها ناشطون على مواقع التواصل، حيث ظهر صوت عارف النايض يحث أحد قادة كتيبة القعقاع المذكورة سابقًا على اغتيال شخصيات منها وكيل وزارة الدفاع لحكومة الإنقاذ آنذاك خالد الشريف[20]، وهو تسريب تلته إقالة النايض من الجمعية العمومية لنادي أهلي بنغازي. يقفز "النايض" في كل مكان، فهو في مؤتمرات السلام في المجتمعات المُسلمة بأبوظبي، وفي حضرة مراكز الأبحاث الأمريكية في واشنطن، وبمقره في سفارة ليبيا بأبي ظبي، وعلى رأس قناة ليبيا روحها الوطن من عمّان، ومؤسسة "كلام" الخاصة لترويج الفكر الإسلامي المعتدل من دبي، ومركز أبحاث في ليبيا، ومشارك في فعاليات مؤسسة آل البيت الأردنية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة Templeton الأمريكية اليمينية، ومدير سابق لشركة تكنولوجيا مقرها ليبيا والإمارات. هكذا يبدو "عارف النايض" للعالم؛ رجل "الرب والتكنولوجيا،" أو بالأحرى رجل الإسلام المعتدل والتنمية، بيد أن ما تكشفه ضغطة زر على جوجل عن الرجل لا تقول كل شيء عن تحيزاته الفكرية ودوره في الوساطة السياسية والعسكرية بين أبي ظبي وحلفائها، وهو في ذلك كالإمارات الدولة الراعية له ولطموحاته السياسية، إذ يراها كثيرون أيضًا دولة "الإسلام المعتدل والتنمية"، في حين تخفي هي حقيقة أخرى لا يكشفها إلا الغوص وكشف تورطها العميق في ملفات السلاح والدم بالشرق الأوسط، وهي ملفات أبعد ما يكون عن عدالة الرب أو آفاق التكنولوجيا التي أشعلت الثورات العربية قبل سبعة أعوام.
 كما أن ما يجري اليوم على يد اللواء الليبي المتقاعد خليفة خفتر من سعيه للسيطرة على طرابلس وانقلابه على أي مساعٍ للحوار مع حكومة السرّاج، يعيد تسليط الضوء على اليد الإماراتية الممتدة العابثة بمصير السياسة الليبية، والتي لا تألو جهدا، هي وشركاؤها، في وأد كل ما يتصل بحراك الربيع العربي.


ليست هناك تعليقات: