.. السجن المصري الكبير ..
هل يثور الشعب المصري على السيسي
... بعد ارتفاع الأسعار؟ ...
كل سلطة تُنتج مقاومتها، و لا نهاية للتاريخ ولا مرسى أخير.
هل يثور الشعب المصري على السيسي
... بعد ارتفاع الأسعار؟ ...
كل سلطة تُنتج مقاومتها، و لا نهاية للتاريخ ولا مرسى أخير.
أتت الثورة المضادة كعودة وتجسيد شرس ودموي لحالة الاستثناء، وتأتي الليبرالية الجديدة كإضافة لمكونات الاستبداد القديم، حيث تدمج بين السلطوية السياسية والاجتماعية والأمنية مع تخلي الدولة بالكامل عن أدوارها الاجتماعية والتنموية وتمرير السلطة السياسية لنخبة جديدة بعيدة فيزيائيا عن أجساد الملايين المدهوسين في مصر تحت رحى غياب العدل والحرية، لتزيد من حدة حالة الاستثناء أملا في إدامة سلطتها ومصالحها، ورغم تردي الحال في تلك اللحظة فإن الواقع التاريخي يؤكّد أن كل سلطة تُنتج حتما مقاومتها، إذ لا نهاية للتاريخ ولا مرسى أخير.
***********
إذا كنت تعيش في مصر أو على دراية بما يجري فيها، فلعلك تشعر أن مصر على أعتاب تحول اقتصادي واجتماعي عنيف، ربما لا يقل عُنفا عن تحولها السياسي الأخير قبل سنوات، بعد الانقلاب العسكري وإجهاض تجربة التحول الديمقراطي في مصر، إن لم يكن مرتبطا به ومترتبا عليه في الأساس.فالعديد من الدراسات تشير بشكل مستمر إلى أن سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية المُزمع إجراؤها بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، التي تُعد القروض أحد أهم مؤشراتها، ستؤدي إلى دخول مصر في أكبر موجة تضخم اقتصادي، لم تحدث منذ انتهاء الحرب المصرية-الإسرائيلية في السبعينيات، فمع تعويم قيمة العملة المحليّة ورفع الدولة يدها عن الاقتصاد بشكل كامل ونهائي في المستقبل القريب، تتزايد احتمالات حدوث حراك اجتماعي وطبقي عنيف ومتسارع في المجتمع المَصري، مما يُعد بمنزلة تهديد جذري لأنماط حياة العديد من الفئات والقوى والطبقات الاجتماعية في مصر.
السؤال هنا: كيف لتجربة تحول اقتصادي نيوليبرالي بهذا الحجم بكل توابعها الاجتماعي، وفي بلد كمصر يملك جهازا بيروقراطيا ضخما وطبقة وسطى عريضة، وهما المُتضرران الأساسيان من هذا التحول النيوليبرالي، لا يبدو فيها مؤشرات، حتى وإن كانت بسيطة، على اعتراضات شعبية تجاه ما يجري، حيث لم يُشع حتى الآن عن غضب اجتماعي أو احتجاج فئوي أو نقابي أو عُمالي ذي قيمة، أو أي عمل جماعي مُنظّم ضد السياسات التعسفية التي تتخذها السلطة، خصوصا وأنها تمس المصالح المادية الصلبة للعديد من قطاعات المجتمع. وبنظرة أوسع، يُمكن القول هنا -بدرجة كبيرة من التعميم- إن التحولات النيوليبرالية غالبا ما تتم بشكل سُلطوي وغير ديمقراطي ، بل وفي مرات ليست بالقليلة كانت تتم بطريقة دموية وعنيفة،
وفي أغلب الأحيان أتى هذا التحول وسط حالة استقطاب سياسية واجتماعية حادة، وتمت مُجابهته بمعارضة شرسة من قطاعات واسعة داخل المجتمعات لا تقتصر فقط على العُمّال، بل من فئات كبيرة من شرائح الطبقات الوسطى وسُكّان المدن، وأحزاب سياسية وقوى اجتماعية متنوعة.
أما ما يجري الآن في مصر، فإنه يُمثّل، قياسا بتجارب التحول النيوليبرالي على مستوى العالم بدءا من أوائل السبعينيات، واحدا من أنجح تجارب التحول النيوليبرالي وأكثرها سلاسة على صعيد الهدوء المقرون بها حتى اللحظة، وذلك مقارنة بالتحولات الجذرية والعنيفة المتوقعة من هكذا تحولات. وعليه يكون من الأولوية فهم السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي الأوسع الذي تتم فيه تلك التحولات، والتي أدّت بدورها لضعف الاستجابة غير المسبوق في تاريخ الليبرالية الجديدة.
كيف أصبحنا رهائن؟
يشرح ميشيل فوكو أن مشكلة الدولة الحديثة الأساسية تتمثّل في تدخلها في حياة الأفراد بغرض إدارتها واستثمارها، فالدولة الحديثة بمجرد تأسيسها تستلم حياة من يقع تحت سيطرتها، بحيث تُدمج الحياة في صورتها الطبيعية واليومية داخل النظام السياسي، وتنزع عبر ذلك إلى تقنين وتنظيم كافة التفاعلات الإنسانية تقريبا، كالأنشطة الاقتصادية والتجارية والتعليمية والحرفية، وصولا إلى الشؤون الصحية والعلاجية، هذا فضلا عن استثمارها لحياة وأجساد سكانها في حروبها الدفاعية أو الهجومية وفي سياسات الأمن القومي، ومع نجاح هذا الدمج واستمراره يبدأ السُكّان بقبول منطق الدولة والبدء بتكوين وعي سياسي وحقوقي وقانوني من داخلها، ومن ثم فإنهم يطالبون بمصالحهم وحقوقهم داخل نطاق الدولة، وبالتالي فإنهم يعملون بوعي على تعميق اندماجهم فيها والمشاركة في إدارتها وتطويعها لخدمة مصالحهم، وهو ما يُعد بحسب الكاتب شريف يونس الجذر الأول في تَشكُّل الديمقراطية الحديثة.
وفي كتابه "حالة الاستثناء" يُضيف جيورجيو أغامبين أن حالة الاستثناء أو حالة الحصار والأحكام العرفية هي النموذج الأساسي لسلطة الدولة الحديثة، إلا أنه ما يلبث أن تظهر قوى اجتماعية وسياسية من داخل حالة الاستثناء وحالة الحصار القائمة لتعمق اندماجها بالدولة الحديثة، تظهر من خلال هذا الصراع قيم الديمقراطية والدستور والعقد الاجتماعي والأحزاب، كبنى قانونية ومؤسسية وخطابية لعقلنة السلطة السياسية والتخفيف من حدة حالة الاستثناء والطوارئ.
فحالة الاستثناء في شكلها الأصيل هي وجود جهاز الدولة الحديثة بكل ما يملك من تقنية حربية وأدوات سيطرة وتنظيم وقمع وحصار، لكن من دون عقد اجتماعي في صيغته القانونية والدستورية والمؤسسية التي تشكل حالة من التفاوض والتمثيل والعقلنة بين جهاز الدولة وبين فئات المجتمع المختلفة. تاريخيا، لم تخرج مصر من حالة الاستثناء والطوارئ منذ بداية التحديث السلطوي في عهد محمد علي ، ثم ازدادت كثافة وعُمق حالة الاستثناء مع مجيء الاستعمار البريطاني إلى مصر ، فبعد التحديث الاستعماري العنيف الذي بدأه محمد علي والتجلي الأول للدولة الحديثة كحالة حصار للمدن المصرية، أصبح المصريون تحت رحمة المؤسسات الاستعمارية البريطانية المتحالفة مع الاستبداد الملكي التقليدي، بدون حقوق ولا تمثيل سياسي ولا عقد اجتماعي بين السلطة وقوى المجتمع، حيث خاض المصريون -كأي مجتمع حديث في العالم- صراعا دستوريا وديمقراطيا طويلا ضد الاستعمار والحكم المَلكِي المطلق حتى الانقلاب العسكري 1952.
واستمرت حالة الاستثناء والطوارئ مع بداية الحكم الوطني الذي اعتمد - كأي نظام يتأسس بحالة الاستثناء والحكم الاستبدادي - على فرض السيادة وقوة أجهزة الأمن والسيطرة كبديل سلطوي عن قوات الاستعمار، وذلك على خلاف سيادة القانون والدستور، فقد تشكّلت دولة يوليو العسكرية التي أتت بانقلاب عسكري لتُعزّز من حالة الاستثناء والطوارئ طوال تاريخها كله ، مستخدمة هياكل السلطة والسيطرة والضبط نفسها التي ورثتها من الحقبة الاستعمارية، ليقبع الأغلبية من المصريين مجددا تحت رحمة الأجهزة السيادية للدولة العسكرية طوال عقود هيمنتها، بدون أن يكون لهم الحق في المشاركة والتمثيل السياسي داخل جهاز الدولة الذي يخضعون لهيمنته، أي بدون أن يمارسوا حقهم السياسي العقلاني في التدخل في إدارة جهاز الدولة الذي يتدخل في إدارة حياتهم ويستثمرها لصالح الأقلية الحاكمة. حيث إن تلك الأجهزة السيادية تُعد وليدة الهيمنة الاستعمارية وحالة الاستثناء ولا تستطيع أن تعمل خارجها، أي على أرضية قانونية - ديمقراطية عادية، فالقوى العسكرية والأمنية التي أنتجها التحديث التقني الاستعماري بالأساس باتت أشبه بقطّاع الطريق - كما يصفها دكتور برهان غليون - وتؤسس لحالة استثناء دائمة ، فلا هي دمجت الجماهير العربية العريضة في مشروع ثوري كبير للتحول إلى الحداثة، كالبرجوازية الأوروبية التي قادت الشعوب الغربية إلى ثورات جماهيرية عارمة للقضاء على استبداد القوى التقليدية ممثلة في الفئات الأرستقراطية والإقطاعيين وأنظمة الحكم المَلكي المطلق، ولا هي سعت -في المقابل- إلى التفاوض مع النُّخب التقليدية والمحلية والطبقات الوسطى العربية الصاعدة للوصول إلى حلول وسط، أو حلول إصلاحية، لتكوين عقد اجتماعي جديد في المجتمعات العربية. الليبرالية الجديدة وحالة الاستثناء.. وجه جديد لدولة قديمة يأتي التحول النيوليبرالي في مصر كجزء من موجة تحوّل عالمية، حيث يشهد العالم حاليا ما يسميه زيجمونت باومان ظاهرة فصل السلطة عن السياسة .
** بالاتكاء على باومان مرة أخرى نجد أن انفصال السلطة عن السياسة كإحدى سمات التحول النيوليبرالي يعني أن تكون قيادات الدولة وأجهزتها وكتابها المقدس، كالسيادة والأمن القومي وحتى حالات الطوارئ والاستثناء والأحكام العرفية، مُوظفة لصالح نُخبة حاكمة جديدة هي التي تملك السلطة السياسية الفعلية وليس القيادة التقليدية للدولة، سواء كانت منتخبة أو تحكم من خلال انقلاب عسكري، فباحتفاط الدولة بقدراتها القمعية والسيادية في ضبط حركة المجتمع والتحكم في حياة السُكّان، مع تراجع فاعليتها السياسية في إقرار وتحديد ما الذي ينبغي تحقيقه بتلك القدرات القمعية والقانونية، يعني تخليها عن سلطتها السياسية والأيديولوجية لصالح نخبة العصر النيوليبرالي. نخبة جديدة عولمية الطابع غير مُقيّدة بمكان أو بمؤسسة، فهي بحسب وصف ديفيد هارفي "طبقة اقتصادية - سياسية تمويلية، أي ليست إنتاجية أو صناعية، فلا تقوم هي ذاتها بالمشاركة في الاقتصاديات الوطنية والمساهمة في التنمية المحلية، وأُممية أي لا تخضع لرقابة قضائية ضريبية أو برلمانية دستورية"، مما يحقق لها سلطة سياسية واقتصادية هائلة تشبه في بنيتها سلطة الدولة في حالة الاستثناء، حيث تحتكر وحدها حق التصرف بشكل طبيعي بلا قانون أو نقاش ديمقراطي ورقابة شعبية، فضلا عن تدخّلها السافر في تشكيل أنماط حياة أو تدميرها بما يتوافق مع مصالحها وقيمها الخاصة، قد تكون تلك الطبقة السياسية الاقتصادية الجديدة في دبي أو في واشنطن أو بكين أو في كل تلك المدن ولا تكون في القاهرة، ما يعني أنه حتى إذا ثار المصريون مجددا أمام جنرالات دولة يوليو، سيكتشفون بعد تضحيات مريرة أخرى أن المكاسب السياسية الحقيقية لم تعد موجودة في مكاتب وزارة الدفاع المصرية، وأن السلطة التي تتحكم في حياتهم وتُشكِّلها وتستثمرها وفق مصالحها ورؤيتها الخاصة للعالم صارت في يد نخبة سائلة غير مُتجسِّدة في مؤسسة واحدة، وقادرة في الوقت نفسه على إعادة إنتاج نفسها خلف أي وجوه جديدة.
بهذه الكيفية تدخل مصر العهد النيوليبرالي السعيد، بوضعيّة مماثلة لكل المراحل التاريخية السابقة في التاريخ المصري الحديث، وضعية حالة الاستثناء، فمؤشرات التحول النيوليبرالي التي بدأت بإعلان مصر تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي بناء على توصيات صندوق النقد الدولي، من تحرير لسعر الصرف ورفع الدعم التدريجي عن الوقود والسلع الأساسية وفرض ضريبة القيمة المُضافة وأخيرا توقف الدولة عن العديد من أدوارها الاجتماعية كالقطاع الصحي الحكومي والبدء في خصخصته وتمليكه لمستثمرين أجانب ومصريين لتحويله إلى مشاريع صحية استثمارية وربحية ، أتت تلك الإجراءات كما يوضح الدكتور عمر الشنيطي دون أي نقاش عام حولها داخل المجتمع ومؤسساته السياسية، بل تم تنفيذها بمنطق سيادي سلطوي ، ولم يتسن للمعنيين أو بالأحرى المتضررين من تلك السياسات النقاش حولها، وحول الإجراءات الحِمائية التي قد تتخذها الدولة لحماية المجتمع من موجة التضخم والارتفاع السريع والضخم للأسعار، نتيجة تحرير سعر الصرف وتعويم قيمة العملة المحلية ورفع الدعم عن الطاقة والسلع الأساسية، بل إن تلك الإجراءات تتم وسط تشديدات وإجراءات أمنية مكثفة وانتشار متكرر للجيش المصري في المدن، وإعلان صريح من رئاسة الدولة إنها لن تسمح بنزول الناس إلى الشارع للاحتجاج على أي شيء .
يشرح أكثر البروفيسور برهان غليون مضيفا أن هذا التحوّل النيوليبرالي يظل بالنسبة للمجتمع مجرد وجه جديد لحالة قديمة، "فسياسات اللبرلة هنا ليس لها أي علاقة بالمعاني السياسية والأخلاقية لليبرالية، أي حرية التعبير وقداسة المجال الخاص للأفراد"، مضيفا أن هذا التحوّل الجديد يعتمد في المجال العربي المشرقي بشكل بنيوي على وضعية حالة الاستثناء وغياب أي عقد اجتماعي فعلي وسلطات دستورية فعالة، فبدون حالة الاستثناء وغياب أي فاعلية ديمقراطية ودستورية، ما كان لمثل تلك القرارات أن تتم بدون معارضة، لأنها تتعارض مع المصالح المادية الصلبة للعديد من شرائح المجتمع، فهذا التحوّل يقوم بشكل أساسي على تشديد قبضة الدولة على الحياة السياسية والاجتماعية التي تبدو من خلال هذه السياسات وكأنها تقوم بمحاصرة القطاع الأوسع من المجتمع والهجوم على مصالحه، والمتغير الوحيد هنا هو أن العنف السيادي تغيرت وجهته، فبدلا من العنف الرمزي والمادي ضد الخصوم الأيديولوجيين والأقليات، أصبح العنف عنفا رمزيا اقتصاديا بالدرجة الأولى، تحكمه مصالح النخب الاقتصادية السياسية الجديدة، ولا يتحوّل إلى عنف مادي إلا بقدر ما يثيره هذا العنف الرمزي الاقتصادي من تمرد ومعارضة. تبدو مصر بالفعل مُقبلة على تحوّل جذري يطول بنية الدولة والمجتمع، ربما تكون حالة الاستثناء والحداثة السلطوية في مصر قد كُسرت بالفعل في أعوام ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث شهدت مصر خلالها بدايات تفاعل سياسي واجتماعي بحثا عن عقد اجتماعي جديد، وأملا في جمهورية ديمقراطية دستورية حقيقية، إلا أنه سرعان ما أتت الثورة المضادة كعودة وتجسيد شرس ودموي لحالة الاستثناء، وتأتي الليبرالية الجديدة كإضافة لمكونات الاستبداد القديم، حيث تدمج بين السلطوية السياسية والاجتماعية والأمنية مع تخلي الدولة بالكامل عن أدوارها الاجتماعية والتنموية وتمرير السلطة السياسية لنخبة جديدة بعيدة فيزيائيا عن أجساد الملايين المدهوسين في مصر تحت رحى غياب العدل والحرية، لتزيد من حدة حالة الاستثناء أملا في إدامة سلطتها ومصالحها، ورغم تردي الحال في تلك اللحظة فإن الواقع التاريخي يؤكّد أن كل سلطة تُنتج حتما مقاومتها، إذ لا نهاية للتاريخ ولا مرسى أخير.
كيف أصبحنا رهائن؟
يشرح ميشيل فوكو أن مشكلة الدولة الحديثة الأساسية تتمثّل في تدخلها في حياة الأفراد بغرض إدارتها واستثمارها، فالدولة الحديثة بمجرد تأسيسها تستلم حياة من يقع تحت سيطرتها، بحيث تُدمج الحياة في صورتها الطبيعية واليومية داخل النظام السياسي، وتنزع عبر ذلك إلى تقنين وتنظيم كافة التفاعلات الإنسانية تقريبا، كالأنشطة الاقتصادية والتجارية والتعليمية والحرفية، وصولا إلى الشؤون الصحية والعلاجية، هذا فضلا عن استثمارها لحياة وأجساد سكانها في حروبها الدفاعية أو الهجومية وفي سياسات الأمن القومي، ومع نجاح هذا الدمج واستمراره يبدأ السُكّان بقبول منطق الدولة والبدء بتكوين وعي سياسي وحقوقي وقانوني من داخلها، ومن ثم فإنهم يطالبون بمصالحهم وحقوقهم داخل نطاق الدولة، وبالتالي فإنهم يعملون بوعي على تعميق اندماجهم فيها والمشاركة في إدارتها وتطويعها لخدمة مصالحهم، وهو ما يُعد بحسب الكاتب شريف يونس الجذر الأول في تَشكُّل الديمقراطية الحديثة.
فكرة "فوكو" الأساسية
في هذا السياق هي أن أهم ما قامت به الحداثة حين بدأت أنها قامت بتقسيم البيئات المفتوحة للإنسان وحاصرتها، عن طريق ما يسميه "فوكو" سياسة فضاءات التطويق الواسعة، فالدولة الحديثة في تجليها الأهم هي فضاء واسع تم تطويقه، وداخل هذا الفضاء تتجلى الدولة في بدايتها كحالة حصار لفضاء ما، وداخل هذا الفضاء تقوم الدولة بالتحكم في كل ما تصل إليه سلطاتها، "تقسيم المساحة، ترتيب الزمن، استثمار في حياة السُكّان لتشكيل قوة عمل منتجة وأخرى حربية وأمنية، وتعميم أنماط الإنتاج والاستهلاك، وتفعيل سياسات الهوية ضِمن حدود المساحة والزمن المحاصرة، وفرض السيادة".وفي كتابه "حالة الاستثناء" يُضيف جيورجيو أغامبين أن حالة الاستثناء أو حالة الحصار والأحكام العرفية هي النموذج الأساسي لسلطة الدولة الحديثة، إلا أنه ما يلبث أن تظهر قوى اجتماعية وسياسية من داخل حالة الاستثناء وحالة الحصار القائمة لتعمق اندماجها بالدولة الحديثة، تظهر من خلال هذا الصراع قيم الديمقراطية والدستور والعقد الاجتماعي والأحزاب، كبنى قانونية ومؤسسية وخطابية لعقلنة السلطة السياسية والتخفيف من حدة حالة الاستثناء والطوارئ.
فحالة الاستثناء في شكلها الأصيل هي وجود جهاز الدولة الحديثة بكل ما يملك من تقنية حربية وأدوات سيطرة وتنظيم وقمع وحصار، لكن من دون عقد اجتماعي في صيغته القانونية والدستورية والمؤسسية التي تشكل حالة من التفاوض والتمثيل والعقلنة بين جهاز الدولة وبين فئات المجتمع المختلفة. تاريخيا، لم تخرج مصر من حالة الاستثناء والطوارئ منذ بداية التحديث السلطوي في عهد محمد علي ، ثم ازدادت كثافة وعُمق حالة الاستثناء مع مجيء الاستعمار البريطاني إلى مصر ، فبعد التحديث الاستعماري العنيف الذي بدأه محمد علي والتجلي الأول للدولة الحديثة كحالة حصار للمدن المصرية، أصبح المصريون تحت رحمة المؤسسات الاستعمارية البريطانية المتحالفة مع الاستبداد الملكي التقليدي، بدون حقوق ولا تمثيل سياسي ولا عقد اجتماعي بين السلطة وقوى المجتمع، حيث خاض المصريون -كأي مجتمع حديث في العالم- صراعا دستوريا وديمقراطيا طويلا ضد الاستعمار والحكم المَلكِي المطلق حتى الانقلاب العسكري 1952.
واستمرت حالة الاستثناء والطوارئ مع بداية الحكم الوطني الذي اعتمد - كأي نظام يتأسس بحالة الاستثناء والحكم الاستبدادي - على فرض السيادة وقوة أجهزة الأمن والسيطرة كبديل سلطوي عن قوات الاستعمار، وذلك على خلاف سيادة القانون والدستور، فقد تشكّلت دولة يوليو العسكرية التي أتت بانقلاب عسكري لتُعزّز من حالة الاستثناء والطوارئ طوال تاريخها كله ، مستخدمة هياكل السلطة والسيطرة والضبط نفسها التي ورثتها من الحقبة الاستعمارية، ليقبع الأغلبية من المصريين مجددا تحت رحمة الأجهزة السيادية للدولة العسكرية طوال عقود هيمنتها، بدون أن يكون لهم الحق في المشاركة والتمثيل السياسي داخل جهاز الدولة الذي يخضعون لهيمنته، أي بدون أن يمارسوا حقهم السياسي العقلاني في التدخل في إدارة جهاز الدولة الذي يتدخل في إدارة حياتهم ويستثمرها لصالح الأقلية الحاكمة. حيث إن تلك الأجهزة السيادية تُعد وليدة الهيمنة الاستعمارية وحالة الاستثناء ولا تستطيع أن تعمل خارجها، أي على أرضية قانونية - ديمقراطية عادية، فالقوى العسكرية والأمنية التي أنتجها التحديث التقني الاستعماري بالأساس باتت أشبه بقطّاع الطريق - كما يصفها دكتور برهان غليون - وتؤسس لحالة استثناء دائمة ، فلا هي دمجت الجماهير العربية العريضة في مشروع ثوري كبير للتحول إلى الحداثة، كالبرجوازية الأوروبية التي قادت الشعوب الغربية إلى ثورات جماهيرية عارمة للقضاء على استبداد القوى التقليدية ممثلة في الفئات الأرستقراطية والإقطاعيين وأنظمة الحكم المَلكي المطلق، ولا هي سعت -في المقابل- إلى التفاوض مع النُّخب التقليدية والمحلية والطبقات الوسطى العربية الصاعدة للوصول إلى حلول وسط، أو حلول إصلاحية، لتكوين عقد اجتماعي جديد في المجتمعات العربية. الليبرالية الجديدة وحالة الاستثناء.. وجه جديد لدولة قديمة يأتي التحول النيوليبرالي في مصر كجزء من موجة تحوّل عالمية، حيث يشهد العالم حاليا ما يسميه زيجمونت باومان ظاهرة فصل السلطة عن السياسة .
فالسلطة بما هي القدرة على فعل الأشياء،
والسياسة بمعنى النقاش حول تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها
حدث بينهما انفصال
يزداد إتساعا مع دخول العالم في حظيرة الليبرالية الجديدة .
حيث غادرت السلطة المكاتب الإدارية للوزارات والمكاتب العليا للبيروقراطية، والنُّخب السياسية التقليدية، باتجاه نُخب جديدة عالمية متنقلة وسريعة الحركة لا ترتبط بمكان أو بلد، ولا تهتم بمفهوم السيادة بل بمفاهيم الكفاءة والفاعلية والقدرة على الإنجاز وتعظيم الأرباح.
مما قد يُوحي للوهلة الأولى أن الليبرالية الجديدة وسياساتها من شأنها أن تخفف من قبضة الدولة الأمنية والعسكرية، وتُخفف من حِدّة حالة الاستثناء والطوارئ والهوس بالسيادة والسيطرة التي تعيشها مصر لعقود، كنتيجة طبيعية لرفع يد الدولة عن الاقتصاد والتوظيف وعن هيمنتها وتدخلها المباشر في حياة الناس، إلا أن ما يحدث هو العكس تماما.يزداد إتساعا مع دخول العالم في حظيرة الليبرالية الجديدة .
** بالاتكاء على باومان مرة أخرى نجد أن انفصال السلطة عن السياسة كإحدى سمات التحول النيوليبرالي يعني أن تكون قيادات الدولة وأجهزتها وكتابها المقدس، كالسيادة والأمن القومي وحتى حالات الطوارئ والاستثناء والأحكام العرفية، مُوظفة لصالح نُخبة حاكمة جديدة هي التي تملك السلطة السياسية الفعلية وليس القيادة التقليدية للدولة، سواء كانت منتخبة أو تحكم من خلال انقلاب عسكري، فباحتفاط الدولة بقدراتها القمعية والسيادية في ضبط حركة المجتمع والتحكم في حياة السُكّان، مع تراجع فاعليتها السياسية في إقرار وتحديد ما الذي ينبغي تحقيقه بتلك القدرات القمعية والقانونية، يعني تخليها عن سلطتها السياسية والأيديولوجية لصالح نخبة العصر النيوليبرالي. نخبة جديدة عولمية الطابع غير مُقيّدة بمكان أو بمؤسسة، فهي بحسب وصف ديفيد هارفي "طبقة اقتصادية - سياسية تمويلية، أي ليست إنتاجية أو صناعية، فلا تقوم هي ذاتها بالمشاركة في الاقتصاديات الوطنية والمساهمة في التنمية المحلية، وأُممية أي لا تخضع لرقابة قضائية ضريبية أو برلمانية دستورية"، مما يحقق لها سلطة سياسية واقتصادية هائلة تشبه في بنيتها سلطة الدولة في حالة الاستثناء، حيث تحتكر وحدها حق التصرف بشكل طبيعي بلا قانون أو نقاش ديمقراطي ورقابة شعبية، فضلا عن تدخّلها السافر في تشكيل أنماط حياة أو تدميرها بما يتوافق مع مصالحها وقيمها الخاصة، قد تكون تلك الطبقة السياسية الاقتصادية الجديدة في دبي أو في واشنطن أو بكين أو في كل تلك المدن ولا تكون في القاهرة، ما يعني أنه حتى إذا ثار المصريون مجددا أمام جنرالات دولة يوليو، سيكتشفون بعد تضحيات مريرة أخرى أن المكاسب السياسية الحقيقية لم تعد موجودة في مكاتب وزارة الدفاع المصرية، وأن السلطة التي تتحكم في حياتهم وتُشكِّلها وتستثمرها وفق مصالحها ورؤيتها الخاصة للعالم صارت في يد نخبة سائلة غير مُتجسِّدة في مؤسسة واحدة، وقادرة في الوقت نفسه على إعادة إنتاج نفسها خلف أي وجوه جديدة.
بهذه الكيفية تدخل مصر العهد النيوليبرالي السعيد، بوضعيّة مماثلة لكل المراحل التاريخية السابقة في التاريخ المصري الحديث، وضعية حالة الاستثناء، فمؤشرات التحول النيوليبرالي التي بدأت بإعلان مصر تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي بناء على توصيات صندوق النقد الدولي، من تحرير لسعر الصرف ورفع الدعم التدريجي عن الوقود والسلع الأساسية وفرض ضريبة القيمة المُضافة وأخيرا توقف الدولة عن العديد من أدوارها الاجتماعية كالقطاع الصحي الحكومي والبدء في خصخصته وتمليكه لمستثمرين أجانب ومصريين لتحويله إلى مشاريع صحية استثمارية وربحية ، أتت تلك الإجراءات كما يوضح الدكتور عمر الشنيطي دون أي نقاش عام حولها داخل المجتمع ومؤسساته السياسية، بل تم تنفيذها بمنطق سيادي سلطوي ، ولم يتسن للمعنيين أو بالأحرى المتضررين من تلك السياسات النقاش حولها، وحول الإجراءات الحِمائية التي قد تتخذها الدولة لحماية المجتمع من موجة التضخم والارتفاع السريع والضخم للأسعار، نتيجة تحرير سعر الصرف وتعويم قيمة العملة المحلية ورفع الدعم عن الطاقة والسلع الأساسية، بل إن تلك الإجراءات تتم وسط تشديدات وإجراءات أمنية مكثفة وانتشار متكرر للجيش المصري في المدن، وإعلان صريح من رئاسة الدولة إنها لن تسمح بنزول الناس إلى الشارع للاحتجاج على أي شيء .
يشرح أكثر البروفيسور برهان غليون مضيفا أن هذا التحوّل النيوليبرالي يظل بالنسبة للمجتمع مجرد وجه جديد لحالة قديمة، "فسياسات اللبرلة هنا ليس لها أي علاقة بالمعاني السياسية والأخلاقية لليبرالية، أي حرية التعبير وقداسة المجال الخاص للأفراد"، مضيفا أن هذا التحوّل الجديد يعتمد في المجال العربي المشرقي بشكل بنيوي على وضعية حالة الاستثناء وغياب أي عقد اجتماعي فعلي وسلطات دستورية فعالة، فبدون حالة الاستثناء وغياب أي فاعلية ديمقراطية ودستورية، ما كان لمثل تلك القرارات أن تتم بدون معارضة، لأنها تتعارض مع المصالح المادية الصلبة للعديد من شرائح المجتمع، فهذا التحوّل يقوم بشكل أساسي على تشديد قبضة الدولة على الحياة السياسية والاجتماعية التي تبدو من خلال هذه السياسات وكأنها تقوم بمحاصرة القطاع الأوسع من المجتمع والهجوم على مصالحه، والمتغير الوحيد هنا هو أن العنف السيادي تغيرت وجهته، فبدلا من العنف الرمزي والمادي ضد الخصوم الأيديولوجيين والأقليات، أصبح العنف عنفا رمزيا اقتصاديا بالدرجة الأولى، تحكمه مصالح النخب الاقتصادية السياسية الجديدة، ولا يتحوّل إلى عنف مادي إلا بقدر ما يثيره هذا العنف الرمزي الاقتصادي من تمرد ومعارضة. تبدو مصر بالفعل مُقبلة على تحوّل جذري يطول بنية الدولة والمجتمع، ربما تكون حالة الاستثناء والحداثة السلطوية في مصر قد كُسرت بالفعل في أعوام ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث شهدت مصر خلالها بدايات تفاعل سياسي واجتماعي بحثا عن عقد اجتماعي جديد، وأملا في جمهورية ديمقراطية دستورية حقيقية، إلا أنه سرعان ما أتت الثورة المضادة كعودة وتجسيد شرس ودموي لحالة الاستثناء، وتأتي الليبرالية الجديدة كإضافة لمكونات الاستبداد القديم، حيث تدمج بين السلطوية السياسية والاجتماعية والأمنية مع تخلي الدولة بالكامل عن أدوارها الاجتماعية والتنموية وتمرير السلطة السياسية لنخبة جديدة بعيدة فيزيائيا عن أجساد الملايين المدهوسين في مصر تحت رحى غياب العدل والحرية، لتزيد من حدة حالة الاستثناء أملا في إدامة سلطتها ومصالحها، ورغم تردي الحال في تلك اللحظة فإن الواقع التاريخي يؤكّد أن كل سلطة تُنتج حتما مقاومتها، إذ لا نهاية للتاريخ ولا مرسى أخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق