دولة مصر؟ أم دولة سيسي ؟
صدعتنا أجهزة الإعلام بمؤامرة إسقاط الدولة، وبضرورة الاصطفاف خلف الدولة، وبخيانة من يبدي أي رأي – مهما كان منطقيا – يخالف رأي الدولة.
لقد جعلوا من الدولة صنما يُعبد، بقرةً مقدسة، وجعلوا هدم الدولة فزاعة يبتزون بها الأمة المصرية ليفرضوا عليها الذل والخنوع، ولكن الحقيقة المرة أن أكبر خطر على هذه الدولة هو رجال الدولة أنفسهم، وأجهزة الدولة نفسها.
إن تصرفات رجال الدولة ومؤسساتها تؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أننا نعيش في دولة الأسياد والعبيد، حتى إن المرء ليتساءل هل هذه الدولة هي جمهورية مصر العربية التي يملكها الشعب المصري؟ أم أنها دولة مخصصة للسادة المسؤولين؟
* لكي أكون واضحا ومحددا أقول :
إن دستور ما يسمى بلجنة الخمسين يُنْتَهَك ليل نهار، ولن أتحدث عن حقوق الإنسان لأنه موضوع سوف أتناوله في مقالة خاصة في وقت قريب بإذن الله، ولكن سأتحدث عن احترام الدولة ومؤسساتها للدستور الذي تزعم أن شرعيتها منه، وتزعم أن من ينتهكه يصبح إرهابيا، وأصبحت تهمة انتهاك الدستور جاهزة لكل معارض، بينما أكبر منتهك لهذا الدستور هو رئيس جمهورية هذا الدستور.
نماذج انتهاك الدستور لا تُعَدُّ ولا تحصى، وخلال الأيام الماضية أهانت الدولة المصرية نفسها بإهانة دستورها بشكل سافر.
ففوجئنا بإعلان اشتراك القوات المسلحة في عملية عاصفة الحزم ضمن مجموعة من الجيوش العربية والإسلامية بقيادة المملكة العربية السعودية، لضرب ما يسمى بميليشيات الحوثي في اليمن، ومواجهة التوسع الإيراني في بلادنا العربية، وهو هدف يمكن أن نعتبره هدفا نبيلا، لو أن أحدا شرح لنا أوفَهَّمَنَا ما يجري.
* يقول الدستور في المادة رقم 152 :
"رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يعلن الحرب، ولا يرسل القوات المسلحة فى مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة، إلا بعد أخذ رأىمجلس الدفاع الوطنى، وموافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثى الأعضاء.
فإذا كانمجلس النواب غير قائم، يجب أخذ رأى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وموافقةكل من مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطنى".
ونحن جميعا ندرك أن مصر تعيش اليوم بلا برلمان، يحكمها حاكم واحد أحد، فرد صمد، يصدر التشريعات والقرارات ويوقع الاتفاقيات الدولية وكأنه نبي مرسل يتصرف بوحي من الله، لا معقب لحكمه.
ولكن في حالة الاشتراك في أي حرب يقول الدستور : (فإذا كان مجلس النوابغير قائم، يجب أخذ رأى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وموافقة كل منمجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطنى) !
أي أن هناك شروطا
لا بد أن يحترمها رئيس الجمهورية (إذا كنا نعيش في دولة) !
الدستور يقول ذلك، ولكن الأخبار والمعلومات تقول إن المجلس الأعلى للقواتالمسلحة اجتمع لآخر مرة في يوم 31 يناير 2015، وأن مجلس الدفاع الوطنياجتمع أيضا لآخر مرة في يوم 16 فبراير 2015، أما مجلس الوزراء فقد كاناجتماعه الأخير (قبل الحرب) في يوم 18 مارس بعد المؤتمر الاقتصادي، ولم يكن موضوع الحرب مطروحا في الاجتماع طبعا، ولم تصلنا أية أخبار عناجتماع الثلاثة معاً لاتخاذ قرار بشأن الاشتراك في هذه الحرب، وكذلك لم يصلنا خبر اجتماع أي مجلس من هذه المجالس مستقلا ليبت في شأن اشتراك جيشنا في حرب خارج حدود الدولة.
وبالتالي لا نعلم كيف قام السيد "سيسي" باتخاذ قرار الحرب بمخالفة واضحة للدستور توجب المحاكمة، هل قام بما يطالبه به من الدستور؟ أم أنه قد قرر منفردا أن تشارك مصر في حرب لا نعلم إن كان لنا فيها مصلحة أم لا؟!
الغريب في الأمر أن صياغة المادة الدستورية نفسها صياغة سيئة، تمنح رئيس الجمهورية سلطات الإله، فهي لا توجب عليه أن يحصل على (موافقة) المجلس الأعلى للقوات المسلحة ... لا ... معاذ الله، إنها توجب عليه مجرد (أخذ رأي)المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ورغم ذلك استكثر "سيسي" علينا مجرد عقد اجتماع شكلي لهذه المؤسسة لاستيفاء الشكل، لذر الرماد في العيون، لكيد العواذل !
أما مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني فلا شك أن أحدا لن يعترض (راجع التسريبات) !!!
إن إعلان الحرب أو خروج القوات خارج مصر أمر جد خطير، ولا يمكن التعامل معه بهذا الاستخفاف، والأخطر من ذلك هو التعامل مع الدستور بهذا التعالي.
سيقول قائل : أنت لا تعترف بهذا الدستور لكي تحاكمنا به، وأنا بدوري أقول إنني أحاكم هذا النظام بقوانينه هو، وأحتكم إلى مرجعيته هو، وأقيدُهُ بما قَيَّدَ به نفسه، قال تعالى : "قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، فها هو القرآن يحتكم مع بني إسرائيل إلى التوراة إمعانا في إفحام الخصم.
أخشى أن يخرج علينا بعض عباد بقرة الدولة ليقولوا لنا إن "سيسي" قد اجتمع بهذه المجالس بشكل ما، ولو حدث ذلك فنحن أمام هدم علني لفكرة الدولة، مؤسسات رسمية تجتمع بشكل سري، وكأنها تنظيمات سرية، دون أن تعلن للأمة قراراتها المصيرية، ولا حيثيات اتخاذها، ولا أسباب توجهاتها، ولا تكاليف هذه القرارات على الدولة والشعب، لو حدث ذلك فإننا محكومون بما هو أسوأ م حكم مرشد أو مكتب إرشاد، وهو مخالفة أخرى لدستوركم الذي يكفلفي المادة رقم 68 منه حماية حرية تداول المعلومات.
لو حدث ذلك فنحن أمام شكل جديد للدولة ... إنها دولة التشكيل العصابي ! باختصار ... لقد أدخلنا "سيسي" حربا لا نعلم لها سببا، ولا ندرك لها مكسبا، ولا نفهم حجم مشاركتنا ودورنا فيها، ولا عواقب دخول جيشنا إليها، لم يوضحأحدٌ ذلك للأمة المصرية، ولم يشرح أحدٌ ذلك حتى لمؤسسات الدولة كما يقولدستور الدولة المزعومة.
لو حدث ذلك فنحن أمام شكل جديد للدولة ... إنها دولة التشكيل العصابي ! باختصار ... لقد أدخلنا "سيسي" حربا لا نعلم لها سببا، ولا ندرك لها مكسبا، ولا نفهم حجم مشاركتنا ودورنا فيها، ولا عواقب دخول جيشنا إليها، لم يوضحأحدٌ ذلك للأمة المصرية، ولم يشرح أحدٌ ذلك حتى لمؤسسات الدولة كما يقولدستور الدولة المزعومة.
أما الانتهاك الأخطر للدستور فقد كان ذلك في صبيحة يوم أغبر، هو يوم الإثنين 23 مارس 2015 حين تجرأ السيد رئيس جمهورية الأمر الواقع عبدالفتاح "سيسي" ووقّع في الخرطوم ما يسمى بوثيقة النهر، في انتهاك صارخ لما هو أكبر وأعظم من الدستور.
إن نهر النيل أكبر من أي دستور، وأعظم من أي دولة، وأرفع من أي رئيس، والتفكير – مجرد التفكير – في التوقيع على وثيقة تتعلق بهذا الأمر دون الرجوع للأمة المصرية يعتبر خطيئة لا تغتفر.
إنه اعتداء على حق الحياة لأمة كاملة.
أما بالنسبة للذين يعبدون بقرة الدولة فإن هذه الوثيقة إهانة للدولة، واقرأوا معيالمادة رقم 44 من دستوركم المصون :
(تلتزم الدولة بحماية نهر النيل، والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به،وترشيد الاستفادة منه وتعظيمها، وعدم إهدار مياهه أوتلويثها. كما تلتزم الدولةبحماية مياهها الجوفية، واتخاذ الوسائل الكفيلة بتحقيق الأمن المائى ودعمالبحث العلمى فى هذا المجال.
وحق كل مواطن فى التمتع بنهر النيل مكفول، ويحظر التعدى على حرمهأوالإضرار بالبيئة النهرية، وتكفل الدولة إزالة ما يقع عليه من تعديات، وذلك علىالنحو الذى ينظمه القانون)
ونحن اليوم نسمع أن "سيسي" قد وقع على اتفاقية مبادئ اعترفت فيها مصر بشرعية سد النهضة (وهو مكسب لا مثيل له في نظر إثيوبيا) دون أن تأخذ في المقابل أهم مكسب لمصر (وهو تحجيم السعة التخزينية للسد أو تقليل فترة ملء الخزان) !
* من الذي يمنح أي مسؤول في الدولة صلاحية التفريط في كل هذه الحقوق؟
إهانة الدستور، وتجاهل الأمة، والتجرؤ على فتح ملفات لا يحق لأحد أن يفتحها أصلا ... كل ذلك يجعلنا خارج حدود التعريف العلمي للدولة، وخارج التوصيف العملي للدولة، وبعيدين بسنوات ضوئية عن التعامل مع رجال دولة !
* يقول دستوركم في المادة (151) :
(ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلقبحقوق السيادة، ولا يتم التصديق عليها
إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاءبالموافقة.
وفى جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتبعليها التنازل عن اى جزء من إقليم الدولة)
ونحن أمام معاهدة من أخطر ما يمكن لم يُستشر فيها أحد، ولم يُستفت فيها الشعب، وتم التنازل فيها عما هو أخطر من إقليم
من أقاليم الدولة هو حصة مصر من نهر النيل.
لقد أرسل كاتب هذه السطور رسالة إلى رئيس الوزراء الإثيوبي ينبه فيها إلى عدم شرعية التوقيع على هذه الوثيقة، وتطور الأمر بفضل آلاف الشرفاء المصريين الذين دعموا هذه الفكرة، واليوم انطلقت حملة توقيعات على هذه الرسالة، بهدف توصيل صوت الشعب المصري الذي لا يملك دولته إلى العالم كله، نقولها مجلجلة : نحن لم نوكل أحدا في شأن التوقيع على أي اتفاقية تتعلق بحصة مصر في مياه نهر النيل، ولا نعترف بشرعية سد النهضة الإثيوبي أصلا.
... لن تعطش مصر ...
وقعوا عريضة (ضد وثيقة النهر)
من خلال هذا الرابط :
من خلال هذا الرابط :
عريضة (ضد وثيقة النهر)
والله الموفق والمستعان ...
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...
عبدالرحمن يوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق