السبت، 18 أكتوبر 2014

قصة عمدة سرق بلدته ويسأل عن الحكم الشرعى للغنــاء ..



(هلك المتنطعون) 
 فهنيئاً للحكام والملوك والسلاطين والرؤساء



يا مَن إليهِ المُشتكى والمفزعُ

نظرة سريعة على أصغر قرية أو نجع فى مصر المحروسة تستطيع أن تتعرف على أسباب تخلفنا وانحطاطنا عن كل الأمم ومدى الزيف الذى نحياه بالكذب والنفاق وقناع الإيمان والفضيلة بينما نحن غارقون حتى الثمالة فى الفسق والفجور والفساد والانحطاط إلا من رحم الله من أصحاب البصيرة والحكمة ممن لا يفصلون بين الدين والدنيا أو يعيشون بين الناس بأكثر من وجه طمعاً فى مآرب أخرى فلسنا مجتمعاً من الملائكة العظماء أو الشياطين المرجومين.
إنه التنطع فى الدين والتشدد فى غير موقع التشديد كما أبلغنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عن هلاكهم فى حديثه الشهير(هلك المتنطعون) حيث كررها ثلاثاً ، وتاريخنا الاسلامى شاهد على واقعة شهيرة ومعبرة عن التنطع فى أسوأ معانيه وأكثره تجسيداً ورمزية عندما جاء رجل إلى الصحابى الجليل عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يسأله عن حكم دم البعوض يكون فى ثوبه هل ينقض الوضوء أم لا ، فما كان من عبد الله بن عمر أن سأله على الفور ممن أنت؟ .. دون أن يجيبه عن سؤاله فقال من أهل (العراق) مدركاً بفطنته وفراسته أن الأمر لا يعدو مجرد تنطع رخيص بعيداً عن أصل الدين ومقاصد الشريعة الإسلامية فقال بن عمر " انظروا إلى هذا يسألنى عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! ( يقصد الحسين بن على رضى الله عنهما) وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن والحسين : هما ريحانى من الدنيا" فكانت رسالة بن عمرٍ رضى الله عنهما واضحة لأولى الألباب ضد التهويل من صغائر الأمور وسفاسفها بينما فى المقابل التهوين والتقليل من الكبائر وفظائع الأمور وكأنه مقصود بغرض الإلهاء عن القضايا الأهم والمصيرية للأمة.
كان من أكثر علماء الأمة المعاصرين اهتماماً وفهماً بالواقع الحقيقى المزرى للأمة ومدى انحراف بوصلتها الرئيسية عن الفهم الصحيح للدين فى ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية وفقه الأولويات هو العلاّمة الراحل الشيخ محمد الغزالى فضلاً عن تلاميذه الذين تأثروا به من كبار العلماء والمفكرين أمثال الشيخ د. يوسف القرضاوى ود. محمد عمارة ود. محمد سليم العوا والمفكر الإسلامى فهمى هويدى.. فقد تناول الشيخ الغزالى تلك الإشكالية العميقة فى مجتمعاتنا عن الخلل الواضح فى فهم فقه الأولويات فى كتابه (تأملات فى الدين والحياة) عندما دعاه عمدة القرية الفقيرة إلى مأدبة غداء عامرة حافلة ، ترف عليها بشاشة النعمة ، وتنعقد فوقها روائح شتى من الأطباق المنضودة ، والأطعمة الممدودة ، وعلى أطراف الخوان أزهار ورياحين تعبث بها أصابع الرجال الجالسين فى قلة اكتراث ، المتهيئين للأكل والثرثرة فحسب. فلما ضمنى المجلس(هكذا يقول الغزالى) العابث بمرحه ، الصاخب بضحكه ، استشعرت التناقض الواضح ، بين ما رأيت وما أرى ، وتذكرت الأسى الشائع فى جو القرية ، والصارخ بمعانى الحرمان فى حياة أولئك الفلاحين المساكين ، وبرز أمام عينى شبح الشقاء الجاثم فى صدورهم ، فأعدت النظر إلى الوجوه المبعثرة حولى ، ورأيت أسارير منفرجة ، وملامح طافحة بالبشر ، ثم قال العمدة بلهجته الآمرة : يا ولد ، افتح الراديو ، نريد أن نسمع . وإن كان الشيخ المأذون (أحد المدعوين بالطبع) سيتضايق لأنه يكره الغناء! فأرسل المأذون جشاءً طويلاً ثم قال : إن الشرع الشريف هو الذى ينهى عنه أليس كذلك يا... موجها كلامه للشيخ الغزالى وقبل أن يوجه كلامه إلى الحضور الكرام وعلى رأسهم صاحب الحفلة المضياف يتبادلون الضحك العالى ، وهم يكرعون من أنس المجلس ، ومتاع الحياة ، وصفاء العيش ، ما يستطيعون من ذلك كله!! وصوت الراديو ينطلق فى الجو السكران بما فيه ومن فيه قائلاً :
اوع تزعل ثانية  ..  صحتك بالدنيا!
وأحس "مأذون الشرع" بالحرج ، فقال لى مستنجداً : أليس كذلك؟ أى أليس الغناء حراماً؟ أنت ممثل الدين بيننا فتكلم باسم الدين. فقلت ساخراً: كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا . أما اليوم فعند رجال الدنيا أقوام يمثلون باسم الدين !
لكنهم للأسف يمثلون أدوراً هازلة! فقال المأذون : انى أسأل عن حكم الشرع الشريف . فقلت : تسأل عن أشياء قد تخدش أظافره . أما الأشياء التى تدق عنقه وتستأصل من الأفئدة جذوره ، فلا تسأل عنها ، ولا يسأل عنها أحد!
وهذه الفوضى الاجتماعية التى طغت على بلادنا ، وعبثت فيها بكل المقررات الدينية والعقلية ، وطحنت قلوب الجماهير المعذبة ، ألا يُستفتى فيها الدين يوماً ما ليقول حكمه الحق؟ ثم قمت فى غضب (هكذا قال الغزالى) وأغلقت الراديو ، فحبست صوت المرح المهتاج عن القوم المرحين. وتبرم العمدة بهذه الحركة وضاق المأذون بما سبقها من كلام ، فانصرفت وفى مشاعرى غليان مكتوم. .
لقد أيقنت أن هناك عوامل مدبرة ، تدفع الناس إلى الجدل الطويل فى مسائل الدين الصغرى ، لتصرفهم عن ملاحظة المشاكل الخطيرة التى يتعرضون لها فى دينهم ودنياهم ، حتى خُيّل إلىّ أن الاشتغال بهذا السفساف طابور خامس للإلحاد والفجور والبغى فى الأرض .
ولقد وظفنى القدر فى الوعظ والنصيحة والإفتاء ، فما أعجب ما رأيت ووعيت . ويتعجب الغزالى قائلاً : أقول للناس : سلونى فى الجد ، فيسألوننى فى الهزل ، أريد أن تستفتونى فى المبكيات ، فلا أجدهم عندى إلا للاستفتاء فى المضحات . وهم- ولا أدرى لم ؟ يسألون عن حكم الحل والحرمة فى لقمة خبز ، ولكنهم يرفضون أن يسألونى عن الحكم نفسه فى قطعة أرض ، لأن اختصاصى – وقد يكون اختصاص الدين – لا يتعدى القروش وآلاف القروش إلى الأفدنة وآلاف الأفدنة ! .
فإذا كانت الحادثة سرقة من جيب أو اختلاساً من بيت وجدت الفتوى بقطع اليد ماثلة . أما السرقات الكبرى حيث لا تتوافر الشروط الشكلية للجريمة فلا قطع ولا انقطاع ،ولينعم بذلك بالاً من يعنيهم الأمر!.
ويختم شيخنا الغزالى كلامه التشريحى عن حال أمتنا المؤسف وطبيعة مرضها العضال: إن هناك شعوباً مسروقة تحت الشمس ، وطوائف مغصوبة فى وضح النهار .
وإن الله تعالى ليرقب من عليائه كيف يعمل الدين لإحقاق الحق وإزهاق الباطل. لندرك ما أدركه الغزالى بفطنة العالم العامل وعمق تحليله منذ سنوات طويلة عن حقيقة ما نعيشه اليوم من استفحال وتفشى المرض فى جسد الأمة ذلك أن عمدة القرية (صاحب الحفلة) وهو منفصلاً عن واقع قريته أو رعيته يستفتى رأى الشرع والدين فى الحلال والحرام رغم أنه قد يكون متورطاً فى سرقة عشرات ومئات الأفدنة دون وجه حق  من أبناء بلدته! ، وكيف أن هناك أُناساً ينتسبون للعلم وللشريعة لا يزالون يتلاعبون بعقول البسطاء ويغسلون أدمغتهم بعيداً عن همومهم الحقيقية ومشكلاتهم الواقعية عبر إغراقهم فى تفاصيل ثانوية وفروع لا تؤرقهم فنجد من يلوم المقتول ويترك القاتل ويعيب على المسروق دون السارق وينهى الناس عن الخروج على الحاكم بينما لا يطالبه فى المقابل بإقامة العدل والكف عن ظلم العباد ومصادرة حرياتهم وأموالهم وإن قالها فللناس كافة دون الحكّام خاصة ، فالدين فى نظر هؤلاء من أدعياء العلم وأشباه العلماء لحية وجلباب ونقاب ومجموعة من الطقوس والتى هى أهم وأعز وأقدس فى عقولهم من انتهاك الحرمات وخراب الذمم والكذب والنفاق واغتصاب أراضى المسلمين وقتل النفس ، فهنيئاً للحكام والملوك والسلاطين والرؤساء بهم يزينون لهم الباطل باسم الدين فيكسب الحكام مرتين (فى الدنيا بطبيعة الحال ) الأولى باستتباب وديمومة ملكهم (أو هكذا يظنون) والثانية تنفير الناس من علماء السلطان ومن الدين فى آنٍ واحد (أو هكذا يحلمون) ولكن هيهات هيهات لما يوعدون.
رضا حمودة – كاتب سياسى مصرى
يا مَن إليهِ المُشتكى والمفزعُ





قد يُمهل اللهُ العبادَ لحكمةٍ تخفى ويغفل عن حقيقتها الورى
 قل للذي خدعته قدرةُ ظالمٍ لاتنسَ أن اللهَ يبقى الأقدرا




ليست هناك تعليقات: