الأحد، 19 أكتوبر 2014

في ظلال الاستبداد وغيابات الاستعباد .



{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} 
الساحر يصنع جيلًا ممسوخًا من المقتنعين بقمع النار والحديد بل وربما من المطالبين بالمزيد والمزيد والفرحين بأنهم للطواغيت عبيد.



{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71]

محاور مفصلية وتطورات تنفيذية، تتجلى من خلالها طريقة تعامل الطغاة ونفسية المستبدين في كل زمان ومكان، يمثلها بوضوح هذا الخطاب الفرعوني وأشباهه مما تمتلئ به آيات القرآن.
فما بين سلطان على الفكرة وتخوين وهواجس المؤامرة، يليها قمع وبطش وترسيخ لثقافة الخوف وصناعة العبرة، تظهر سلوكيات المستبد وتتبدى طريقته ويتجلى مذهبه.
لقد كان انزعاج فرعون في البداية بسبب التفلت من سلطانه على الأفكار, وسيطرته المحكمة على إرادة شعبه، وليس فقط طبيعة هذا الإيمان وفحوى تلك العقيدة التي اعتنقوها أو الأفكار التي تشربوها.
لم تكن المشكلة فقط في نوعية الإيمان وتفاصيله، المهم أن يكون إيمانًا تحت السيطرة، إيمانًا مدجنًا منزوع الإرادة، إيمانًا بالأوامر، وعقيدة بلا عقيدة.
{ قَبْــلَ أَنْ آذَنَ لَكُــمْ }!
القضية المبدئية هنا كانت تكمن في الإذن، في التصريح، في الاختيار بمنأى عن إرادة المستبد، والخروج عن طوعه والاستقلال عن مذهبه ومعتقده، في التحرر من سلطانه وسيطرته حتى على الأفكار والمعتقدات.
إن المستبد يرى لنفسه الحق المطلق في تحديد أفكار الناس، وفي تقييمها، في تقسيمها وتصنيفها، في الحكم عليها وعليهم، وفي ثوابهم وعقابهم، في توزيع صكوك الغفران والوطنية عليهم، وفي تحديد أدوارهم ومهماتهم.
المستبد يرى لنفسه فقط الحق في أن يحكم ويحاكم، ويعطي ويمنع، وينعم ويحرم، ويحل رضوانه على من يوافقه وينافقه، وينزل سخطه على من يخالفه ويرفض أفكاره ويتحرر من سلطان عبوديته.
المستبد لا يعترف بأية مرجعية إلا مرجعيته، ولا يقبل أي رمز إلا نفسه، ولا يتعايش مع متبوع غيره، وهو -إن آجلًا أو عاجلًا- سيسحق كل من يرفع رأسًا، ويقمع كل موطوئي العقب ممن يقتدي الناس بهم ويتبعونهم.
المستبد لا يستطيع العيش إلا مع عبيد يهللون له ويباركون كل خطواته، أما من كان له رأي أو فكر أو إرادة خارج إطار إرادة المستبد وفكره فهو عدو له، متآمر على دولته لابد أن يزاح عن طريقه .
وهنا يأتي دور التشويه والدعاية السوداء: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}
|أيها الخونة المتآمرون! إنه زعيمكم ومعلمكم، إذن وما موهبتكم وصنعتكم السحرية إلا جزء من تلك المؤامرة الكونية على دولتنا البهية!
تناسى المستبد في لحظات أنه هو من أتى بهم من أنحاء القطر الواسع، وجمعهم بجنده واختارهم على عينه، تناسى فجأة طبيعة الأشياء وضعف وسائل خصمه المادية بالمقارنة بآلته الحربية وقدرته الآنية وحضارته القوية؛ فقد تجلت دعاية المؤامرة السوداء لتبرر ما سيحدث بعد قليل للخونة المتآمرين، الذين كانت جريمتهم السجود، وخطيئتهم ترك الاستئذان قبل الإيمان، ونسيانهم الحصول على تصريح بالاعتقاد مختوم بالختم الفرعوني.
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
 وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ
وإذن فقد آن وقت القمع وجاء دور البطش؛ فسبيل الضعيف وإن لبس لأْمتَه ووسيلة العاجز وإن ادعى قوته وتمثل قدرته هي السيف في مواجهة الفكرة، والبطش في مقابلة العقيدة، والعذاب لوأد الإيمان الذي لم يُستأذن فيه المستبد الطاغي.
لكن لماذا؟! هل هو الانتقام وحسب؟! أم هو إسكات الصوت وكبح جماح الإرادة وقتل حركة التحرر الإيماني من عبودية الطواغيت التي مثلها السحرة؟!
ربما كل ذلك وربما غيره، لكن المهم - وربما الأهم - هنا هو المقصد الأخطر والخطوة الحاسمة من خطوات المستبدين لوطء الخارجين عن إرادتهم ووأد حركتهم في مهدها، المهم هنا صناعة العبرة وترسيخ الخوف.
{ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَـدُّ عَـذَابًا وَأَبْقَى }
فلابد أن يعلموا ولابد أن يعلم الجميع، لابد أن يبقى العبيد عبيدًا، وليكن هذا العلم عبر جسور الأشلاء الممزقة؛ ليُسقى هذا العلم للعبيد مع عصير الدماء المسكوبة وقيح الأوصال المتطايرة، ثم ليكن الصلب على تلك الجذوع السامقة، وليشهد القاصي والداني قوة المستبد وبأسه؛ فالمسألة ليست فقط في العقوبة لكنه النموذج؛ النموذج الذي ينبغي أن يظهر للجميع وليظل الإيمان المطلوب كما هو، ليظل إيمانًا بتصريح، وعقيدة بإذن المستبد، إيمانًا بلا إرادة، وعقيدة بلا حرية، والناس على دين ملوكهم، ما يُرونهم إلا ما يرون، وما يسمحون لهم إلا بما يرضون.
المستبد هو فقط من يحق له أن يرى، وهو فقط من يسمح لك أن تتبع وأن ترى فقط ما يرى، وهو يحتقر ويزدري ويسخر ويستهزئ بمخالفيه، ويظهر ذلك الاستهجان والتحقير في كلام المستبد عن معارضيه ووصفه لهم بكل نقيصة؛ فهو فقط عند نفسه الأعلى والجميع دونه، وهو فقط الأعز والجميع أذلاء إليه، وهو وحده الحر والجميع عبيد له، وهو وحده الرشيد والجميع همج رعاع لا يرقون لفكره ولا يقتربون من عبقريته.
المستبد يرى نفسه حالة فريدة ليس لها شبيه بين أقرانه، ودور الآخرين في الحياة أن يركعوا له ويثنوا على أفعاله وينفذوا أوامره، والويل كل الويل لمن ناقش أو اعترض أو فكر أو قرر.
والمستبدون ذوو أسلوب متشابه، وللطغاة طبيعة واحدة ورثها فرعون عن النمرود، وشاركهما فيها ملك الأخدود وأصحاب الرس وثمود، وطواغيت عاد قوم هود، توارثوها بغير نسب ولا عصب، وورَّثوها لكل مستبد جاء بعدهم، كأنما تواصوا بها؛ بل هم قوم طاغون.
ولا تخفى طبيعة مستبد أو أسلوب طاغية على حصيف متأمل؛ بل تظهر مبكرًا من حروفه وإيماءاته ومواقفه وخياراته؛ لتقرع أجراس إنذار في عقول النبهاء: أن احذروا فثمة مستبد يولد، وقليل من ينتبه.
|ولابد للمستبدين من سحرة! سحرة يزينون باطلهم ويحسنون فسادهم وإفسادهم، ويجملون بغيهم ويشرعنون بطشهم، ويسوّقون باطلهم، ويرهبون معارضهم، ويخوفون رافضهم، قد كان لصاحب الأخدود ساحره، الذي طالما خدع الناس بألاعيبه وحيله ليعبدهم لمليكه، وكان لفرعون سحرته الذين طالما جمعهم ليسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ولطالما فعلوا وجاءوا بسحر عظيم.
وإن جريمة الساحر قد تكون أحيانًا أشد وطأة من جريمة الطاغية المستبد نفسه؛ ذلك بأن المستبد قد يُطاع خوفًا من سيفه ورهبة من سوطه وانبطاحًا أمام جبروته؛ لكن ذلك كله قد يزول لحظة انهيار حاجز الخوف وتمكن الإيمان من القلوب حتى تعلم أنه لن يصيب أصحابها إلا ما كتب الله لهم، فيرفعون رؤوسهم في وجوه الظالمين ويصدعون بالحق غير خائفين لوم اللائمين وبطش الطاغين وقمع الجبارين وإيذاء المستبدين ما دام في ذات الله رب العالمين؛ لكن الساحر حين يزين البغي ويشرعن العدوان ويجمل الفساد ويسحر أعين الناس ويسترهبهم فإنه بذلك يصنع حالة من اللامبالاة والتنطع والاستسلام الطوعي؛ بل والاقتناع والسعادة وربما الانبهار بصنيع الطواغيت حتى يستمرئوا الذل ويتلذذوا بالهوان، أو يرسخ تعظيمًا لهم ورهبة في نفوس الناس، تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يغادروا الحائط الذي تعودوا السير إلى جواره. باختصار الساحر يصنع جيلًا ممسوخًا من المقتنعين بقمع النار والحديد، بل وربما من المطالبين بالمزيد والمزيد والفرحين بأنهم للطواغيت عبيد.
ويتنوع السحر حسب الزمان والمكان؛ فليس كل السحر حبالًا وعصيًّا أو تعاويذ وأعمالًا؛ بل: “إن من البيان لسحرًا”. كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولتعرفن أهل ذلك السحر في لحن قولهم وتزيين أكاذيبهم.
وإن الساحر ليتقنع بشتى أنواع الأقنعة، ويتدثر بمختلف الهيئات والأغلفة، التي تخفي زيفه وتستر حقيقته؛ فما بين قناع مثقف، وعباءة نخبوي، وأصباغ غانية، وطلاقة لسان سياسي مفوه، وعمامة شيخ سلطان وإمام ضلالة وبهتان =يتخفى سحرة العصر. فلا تغرنك يومُا أقنعتهم، ولا تخدعنك أستارهم ودثارهم وزيف سمتهم، وانظر دومًا إلى حقيقتهم، حقيقة أنهم يشغلون منصب سحرة الطاغية وسدنة المستبد، وأنهم مهما تقنعوا أو تنخبوا أو تثقفوا أو حتى تعمموا وتسننوا ظاهرًا فإن قولهم وفعلهم ومآل صنعهم يثبت لك دائما أنهم مجرد سحرة.
وغالبًا لا يعترف المستبد على الملأ بأنه مستبد؛ بل ربما ارتدى ثياب المصلح، أو تدثر بدثار الواعظ المشفق، أو تستر برداء المشاور المتقبل لرأي غيره الحريص على مشاركة عبيده القرار، وليس أدل على ذلك التستر وأنه سلوك معتاد من الطغاة مما فعل فرعون إمام الطغاة ونبراس المستبدين، حين تدثر بدثار المشاورين المتقبلين لآراء الآخرين فقال:
  {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى }، ثم لم يلبث أن ارتدى ثياب الناصحين قائلًا عن موسى:
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]... فالمستبد يحلو له اكتمال المنظر وتمام الزينة، فيبدي من قوله ما يخالفه بعمله، ويظهر من حرفه ما يكذبه فعله؛ لكنه يظل في النهاية مستبدًّا طاغيًا وإن تجمل وتزين، لكنه لإتمام زينة المشورة الصورية، ولإكمال قشرة الموضوعية الزائفة، يجمع حوله من يصلحون لتلك المهمة الرخيصة.
وانظر دائمًا إلى من يجمعهم المستبد حوله، أو يسمح لهم بالبزوغ في دولته والظهور في فلك نظامه وزمرته، تجدهم في غالب الأمر من حمائم الناس سهلي المعشر والانقياد، قد تسبق أسماءهم الألقاب العريضة، وتملأ سيرهم الذاتية الشهادات والدرجات الفخمة؛ لكنهم يشتركون جميعًا في صفات الذلة والانقياد والانبهار الدائم بسيدهم المستبد.
|أما صقور الخلق عزيزو النفس مستقلو الرأي، فلا يطيقهم المستبد ولا يستريح في وجودهم، ولا يتعايش مع إيجابيتهم وتأثيرهم، حتى لو كانوا على الفكر والنهج نفسه، فإما أن يهمشهم ويقصيهم، وإما أن يشوههم وبكل بهتان يرميهم أو حتى ينفيهم ويفنيهم؛ فلا يبقى حوله إلا دنيء نفس من أراذل الخلق، يرضى بالهوان ويقبل بالذلة، ويتعايش مع كونه مجرد صدى لأفكار ورغبات سيده المستبد.
لكن مهما أحاط بالمستبد المُزينون، وحُشر حوله فقهاء السلاطين السحَّارون المدلسون، وتكالب عليه المداهنون والمطبلون، الذين هم لفتات الموائد آكلون، ممن يجعلون رزقهم أنهم يُكَذِّبون ويَكذبون ولظلم المستبد هم يشرعنون =فإنه يظل في نفس المستبد وميض معرفة يوقن من خلاله أن كل هذا التطبيل والتزيين والنفاق والتأويل، ما هو إلا قشرة زائفة تحيط بحقيقته القبيحة: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] هذا الوميض إن لم ينتصر في نفسه ويعيد المستبد إلى رشده، فإنه يظل مصدر عذاب له في الدنيا، وإن أنكر وادعى السعادة والهناء، ولعذاب الآخرة أشق وأخزى.
لكن المستبد في النهاية ينقصه شيء واحد ليكتمل طغيانه ويتم استبداده ويصل إلى منتهى علوه، ينقصه شعب لديه القابلية للاستعباد ويمتلك الاستعداد لقبول الاستبداد، ينقصه العبيد الذين يُستخفُّون ويرضون كل ما سبق ويرضخون له ليعلن نفسه في الوقت المناسب: إلهًا فوقهم!
*مجلة حراس الشريعة



قد يُمهل اللهُ العبادَ لحكمةٍ تخفى ويغفل عن حقيقتها الورى
 قل للذي خدعته قدرةُ ظالمٍ لاتنسَ أن اللهَ يبقى الأقدرا







ليست هناك تعليقات: