كيف ينضم الجيش للشعب؟
خبرة ثورة فبراير 1917 الروسية (الحلقة الأولى)
إن الثورة لا تختار سُبلها بمحض إرادتها
فقد عبرت طريقها تحت بطن حصان أحد القوزاق قبل مسيرتها إلى النصر
■ الثورة لا تختار سُبلها بمحض إرادتها بل عبرت طريقها بمشاركة مختلف الطوائف لتصل مسيرتها إلى ميدان النصر
■ اضراب 17 شاركت فيه90.000 شخص يمثثلون معظم شرائح الشعب رغم تحذيرات النقابات والأحزاب والحكومات
■ المرأة أشعلت المظاهرات وانضم لها العمال رافعين شعار الحرية ومنددين بالاستبداد
■ لماذا رحب المتظاهرين بأفراد الجيش وبادلوهم الأحاديث الثورية .. ثم صبوا غضبهم على الشرطة واعتبروها نموذج للاستبداد
■ 250000عامل وطالب وموظف ينتشرون بالميادين ويواجهون السياط والرصاص.. ومع سخونة الأحداث ينضم الجيش للمتظاهرين كان يوم 23 فبراير « يوم المرأة العالمى » وكانت دوائر الحزب الاشتراكى - الديمقراطى ترسم خططها ليكون لهذا الموسم دلالته بالوسائل الشائعة مثل المؤتمرات، والخطب، والمنشورات. وفى مساء هذا اليوم لم يكن يخطر على بال أحد أن يكون "يوم المرأة" فاتحة للثورة؛ وذلك لأن أى تنظيم من التنظيمات لم يوجه الدعوة إلى الإضراب فى هذا اليوم. وفضلاً عن هذا فقد نصحت لجنة دائرة فيبورغ العمالية بعدم القيام بأى إضراب، رغم أنها تنظيم من أكثر التنظيمات البلشفية كفاحًا ونضالاً.
هذه هى الشهادة التى أدلى بها أحد المشتركين المهمين جدًا. ويجب علينا أن نمعن النظر فيها لكى نفهم آليَّة الأحداث القادمة
وابتداء من خريف عام 1916 اتخذ عمل الحكومة -فى هذا المجال- طابعًا منهجيًّا. وفى منتصف شهر يناير 1917 انتهت لجنة مشكلة برئاسة خابالوف من إعداد خطة دقيقة لسحق الانتفاضة الجديدة. وقد قُسِّمت العاصمة بموجب هذه الخطة إلى شبه قطاعات إدارية يشرف عليها "ضباط الشرطة"، كما جُزئت هذه القطاعات إلى قُطَيعات. ووضع الجنرال تشيبيكين -القائد العام لاحتياط الحرس- على رأس كل القوات المسلحة. ووزعت الأفواج على القطيعات. ووضعت الشرطة والدرك والجيش تحت قيادة ضباط أركان عينوا خصيصًا فى كل قطاع من القطاعات الرئيسية الستة.
وبقيت خياله القوزاق تحت تصرف تشيبيكين شخصيًّا للقيام بعمليات واسعة النطاق. ونظمت طريقة القمع بالشكل التالى: تشتبك الشرطة أولا مع المتظاهرين، ثم يزج القوزاق بأسواطهم الجلدية فى المعركة، وأخيرًا توضع القطعات المسلحة بالبنادق والرشاشات فى كل طرف من أطراف القطاعات. كانت هذه الخطة، تطبيقًا موسعًا لتجربة عام 1905، وهى التى طبقت فى فبراير ولم يكن الخطر كامنًا فى الافتقار إلى التوقع، ولا فى التصميم السيئ، وإنما كان الخطر كامنًا من العنصر البشرى.
وسيتوقف السلاح عن الحركة بسبب هذا العنصر. وكانت الخطة تعتمد على مجموع الحامية التى يصل تعدادها إلى 150.000 رجل، ولكن السلطات أعدت فى حقيقة الأمر عشرة آلاف جندى آخرين لاستخدامهم فى العمل. وكان الأمل الكبير ينصب على طلاب مدارس ضباط - الصف، بصورة مستقلة عن أفرد الشرطة الذين كان تعدادهم 3500 رجل.
ونجد تفسير هذا العمل فى تأليف الحامية ذاتها فى هذا التاريخ. فقد كانت مشكلة تقريبًا من الاحتياطيين فقط، وتضم 14 كتيبة احتياطية مرتبطة بأفواج الحرس الموجودة فى الجبهة. وكانت الحامية تتضمن بالإضافة إلى هذا: فوج مشاة احتياطى، وكتيبة سيارات احتياطية، وفرقة آليات مدرعة احتياطية، وعددًا قليلاً من المجندين النقابيين والمدفعيين، وفوجين من قوزاق الدون.
كانت هذه القطعات كثيرة جدًا، بل أكثر مما يلزم لاحتواء الثورة. وكانت أعداد الاحتياط الغزيرة مؤلفة من كتلة بشرية مدربة ومروضة إلى حد ما، أو لم تتعرض بعد إلى هذا الترويض. وبالإضافة إلى كل هذا، ألم يكن الجيش يملك التشكيل ذاته؟ وكان خابالوف يتمسك بالخطة التى وضعها بكل دقة، ففى اليوم الأول وبتاريخ 23، تدخلت الشرطة. وفى 24 أمر خابالوف الخيَّالة بالتقدم فى الشوارع، وكانت هذه الخيالة مسلحة بالأسواط الجلدية والرماح. وكان خابالوف لا يفكر باستخدام المشاة وفتح النار إلا إذا تطورت الأحداث، غير أن الأحداث لم تتركه ينتظر. وفى 25، اتسع نطاق الإضراب، وامتد حتى شمل 240.000 عامل، طبقًا للأرقام الرسمية. وتدخلت بعض العناصر المختلفة وراء الطليعة، كما اشترك عدد لا بأس به من عمال المؤسسات الصغيرة التى أوقفت العمل، وتوقفت حافلات الترام عن السير، وبقيت البيوتات التجارية مغلقة، وفى خلال اليوم نفسه انضم طلاب التعليم العالى إلى الحركة. وفى الظهيرة أخذت الجموع تحتشد بعشرات الألوف وتتجمع حول كاتدرائية قازان وفى الشوارع المجاورة.
وحاولت هذه الجموع تنظيم اجتماعات مفتوحة، فاشتبكت مع الشرطة. وبدأ بعض الرجال بالخطابة أمام تمثال الكسندر الثالث ففتح خيالة الشرطة النار. وسقط أحد الخطباء جريحًا. وانطلقت بعض الطلقات النارية وسط الحشود، فقتل أحد مفوضى الشرطة، وجرح أحد ضباطها كما جرح بعض أفرادها. وقامت الجماهير بقذف رجال الدرك بالزجاجات والمتفجرات، والقنابل. وقد أعطت الحرب دروسًا ممتازة فى هذا الفن. وبرهن الجنود عن سلبية، كما برهنوا عن عداء للشرطة. وأخذت الجماهير تتناقل بانفعال شائعات مفادها أن أفراد الشرطة تعرضوا لنيران كثيفة من القوزاق عندما بدءوا بإطلاق النيران على الشعب فى جوار تمثال ألكسندر الثالث. ولقد اضطر "الفراعنة" الذين يمتطون الخيول (هكذا كانوا يسمون أفراد الشرطة) إلى الفرار هَيْدَبَى. ولم يكن هذا الذى حدث أسطورة نشرت فى أوساط الجماهير عن تصور وتصميم لشحذ شجاعتها وتأجيج حماسها، لأن الحادثة ذاتها -مع أنها حكيت بصورة مختلفة- قد تأكدت من جهات مختلفة.
■ اضراب 17 شاركت فيه90.000 شخص يمثثلون معظم شرائح الشعب رغم تحذيرات النقابات والأحزاب والحكومات
■ المرأة أشعلت المظاهرات وانضم لها العمال رافعين شعار الحرية ومنددين بالاستبداد
■ لماذا رحب المتظاهرين بأفراد الجيش وبادلوهم الأحاديث الثورية .. ثم صبوا غضبهم على الشرطة واعتبروها نموذج للاستبداد
■ 250000عامل وطالب وموظف ينتشرون بالميادين ويواجهون السياط والرصاص.. ومع سخونة الأحداث ينضم الجيش للمتظاهرين كان يوم 23 فبراير « يوم المرأة العالمى » وكانت دوائر الحزب الاشتراكى - الديمقراطى ترسم خططها ليكون لهذا الموسم دلالته بالوسائل الشائعة مثل المؤتمرات، والخطب، والمنشورات. وفى مساء هذا اليوم لم يكن يخطر على بال أحد أن يكون "يوم المرأة" فاتحة للثورة؛ وذلك لأن أى تنظيم من التنظيمات لم يوجه الدعوة إلى الإضراب فى هذا اليوم. وفضلاً عن هذا فقد نصحت لجنة دائرة فيبورغ العمالية بعدم القيام بأى إضراب، رغم أنها تنظيم من أكثر التنظيمات البلشفية كفاحًا ونضالاً.
فشلت الأحزاب ونجحت عاملات النسيج
وكانت حالة الجماهير الفكرية متوترة جدًا بحسب شهادة كييوروف، أحد القادة العماليين فى دائرة فيبورغ. وكان كل إضراب يهدد بالتحول إلى صدام مكشوف بين العمال والسلطات. ولكن نظرًا لأن هذه اللجنة كانت تقدر أن لحظة الصدام لم تحن بعد -لأن الحزب ليس قويًا حتى الآن، كما أن الالتحام بين العمال والجنود غير كاف- فقد قررت ألا تدعو إلى الإضراب، وأن تستعد للعمل الثورى فى تاريخ غير محدد. هذا هو خط السلوك الذى دعت لجنة فيبورغ إلى اتباعه فى مساء 23، ويبدو أن جميع التنظيمات تبنته وأقرته. ولكن فى صباح اليوم التالى، رغم كل التوجيهات الصادرة عن اللجنة امتنعت عاملات النسيج عن العمل فى عدة مصانع، وأرسلن مندوبات عنهن إلى عمال المعادن يطلبوهم دعم الإضراب.
وقد كتب كييوروف عن هذه الفترة يقول: إن البلاشفة ساروا "على كُره منهم"، وتبعهم العمال المناشفة، والاشتراكيون - الثوريون.
ولكن عندما يقع إضراب جماهيرى، لا بد من جر كل الناس إلى الاشتراك به، ودفعهم للنزول إلى الشارع، وذلك من أجل أن يتزعم البلاشفة الحركة. هذا هو القرار الذى اقترحه كييوروف بعد حدوث إضراب العاملات. ووجدت لجنة فيبورغ نفسها مضطرة للموافقة عليه. ويستطرد كييوروف قائلاً: "كانت فكرة التظاهر تنضج منذ وقت طويل فى أوساط العمال، ولكن فى هذه اللحظة لم يكن أحد قد توصل إلى تصور ما سينتج عنها". هذه هى الشهادة التى أدلى بها أحد المشتركين المهمين جدًا. ويجب علينا أن نمعن النظر فيها لكى نفهم آليَّة الأحداث القادمة
العسكر... والثورات
وكان الجميع يعتقدون مسبقًا أن القطعات العسكرية ستخرج حتمًا من الثكنات عند وقوع المظاهرات، وستتصدى للعمال. فما الذى حدث؟ نحن فى حالة حرب، والسلطات غير مستعدة للمزاح. وليس الجندى "الاحتياطى" فى تلك الأيام هو الجندى الذى عرفناه فى الماضى فى ملاكات "الجيش العامل"؛ إذ لم يكن جنديًّا مخيفًا حقًا! وكانت الدوائر الثورية تمعن النظر وتفكر فى هذا الموضوع الحساس وتُحاكمه، ولكن محاكماتها كانت تجريديَّة، لأنه لم يكن أحد ليفكر -وبوسعنا أن نؤكد ذلك بصورة قاطعة استنادًا إلى كل الوثائق الملتقطة- أن يوم 23 فبراير سيكون بداية هجوم حاسم ضد الحكم المطلق المستبد. فلم تكن المسألة سوى مظاهرة محدودة جدًا ما زالت أبعادها غير واضحة؛.
الشرائح المضطهدة وقود الثورة
ونتيجة لهذا كله فقد أصبح بحكم المقرر أن القواعد التى تغلبت على معارضة تنظيماتها الثورية الخاصة هى التى شنت ثورة فبراير وأن شريحة البروليتاريا المستغلة والمضطهدة أكثر من غيرها من الشرائح هى التى اتخذت المبادرة الثورية بصورة عفوية -عاملات النسيج، اللواتى يوجد بينهن عدد لا بأس به من زوجات الجنود- وقد جاء الزخم الأخير ولا شك نتيجة لوقفات الانتظار التى لا تنتهى أمام أبواب المخابز. وكان عدد المشتركين فى الإضراب خلال هذا اليوم، من نساء ورجال، نحو 90.000 شخص. وترجمت التدابير النضالية إلى مظاهرات، واجتماعات، ومعارك مع الشرطة. وتطورت الحركة بادئ الأمر فى دائرة فيبورغ؛ حيث تتمركز المشروعات الضخمة، ثم شملت فيما بعد الضاحية المسماة "بطرسبورغ".
أما فى الأجزاء الأخرى من المدينة، فلم تقع إضرابات أو مظاهرات، طبقًا لتقارير إدارة الأمن. وقد دعمت قوات الشرطة فى هذا اليوم بمفارز صغيرة العدد ظاهريًّا انتُدبت من القطعات العسكرية، ولكن لم تقع أية صدامات. وتوجهت مجموعة من النساء، لم تكن كلها من العاملات إلى دوما البلدية للمطالبة بتوفير الخبز، ولكنها كانت كمن يطلب الحليب من تيس. وظهرت الأعلام الحمراء فى أحياء متفرقة تحمل لافتات تقول إن العمال يطالبون بالخبز، ويرفضون الحكم المستبد، كما أنهم لا يريدون الحرب. وقد نجح "يوم المرأة" وكان حافلاً بالحيوية، ولم تقع فيه أية ضحايا. ولكن أحدًا لم يكن ليستطيع أن يقدر ما سيحمله مساء هذا اليوم من أحداث.
من "الخبز" الى سقوط الاستبداد
وفى اليوم التالى، اشتدت حركة الإضراب وأصبحت أكثر هديرًا؛ ففى يوم 24 فبراير أضرب نصف العمال الصناعيين تقريبًا فى بتروغراد. ففى الصباح وصل العمال إلى مصانعهم، وبدلاً من أن يبدءوا بالعمل، عقدوا الاجتماعات، ثم توجهوا إلى مركز المدينة؛ حيث انجرت إلى الحركة بعض الأحياء، ومجموعات جديدة من السكان. واستبعد شعار "الخبز!" أو غُطى بصيغ أخرى: "فليسقط الاستبداد!" و"لتسقط الحرب!". ولم تنقطع المظاهرات فى شارع نييفسكي: فقد كانت هناك جماهير غفيرة من العمال تُنشد الأناشيد الثورية. كما كانت هناك مجموعات مختلفة من سكان المدينة، وجماهير من الطلبة الذين يرتدون القبعات الزرقاء. "وكان الجمهور الذى يتنزه يُعرب عن تعاطفه مع المتظاهرين، كما كان الجنود يحيون المظاهرات من نوافذ المستشفيات العديدة، ويقذفون فى الهواء كل ما يقع تحت أيديهم". فهل كان عدد الذين فهموا أبعاد هذه الحركات التعاطفية للجنود المرضى إزاء المتظاهرين كبيرًا؟ ومع كل هذا، كان القوزاق يهاجمون الجماهير، ولكن بدون شراسة. وكانت خيولهم مغطاة بالزبد.
السلمية تواجه الرصاص
وكان المتظاهرون يتدافعون هنا وهناك نتيجة لهجوم القوزاق، ثم يعيدون تشكيل أنفسهم بشكل مجموعات منضمة. ولم يكن هناك خوف وسط الجحافل الغفيرة. وسرت إشاعة من فم إلى آخر تقول: "لقد تعهد القوزاق بألا يطلقوا النيران".
وكان من الواضح أن العمال نجحوا فى التفاهم مع عدد من القوزاق. ومع هذا فقد ظهرت بعض وحدات الخيالة، وكان رجالها نصف سكارى. وأخذ بعض هؤلاء الرجال يوجهون الشتائم للمتظاهرين، ثم خرقوا بعد ذلك صفوف الجماهير وأخذوا يضربون رءوسهم بالحراب. ولكن المتظاهرين صمدوا بكل قواهم ولم يتقهقروا. وسَرَت بين الجماهير الإشاعة التى تقول: "إنهم لن يطلقوا الرصاص". ولم يطلق القوزاق الرصاص فى هذا اليوم.
أطراف الخيط الثورى من الماضى إلى الحاضر
وقد لاحظ أحد النواب الليبراليين وجود بعض حافلات الترام معطلة فى الشوارع (ولكن ألم تتوقف حافلات الترام فى اليوم التالى؟) وبعضها الآخر قد تكسَّر زجاجها، فى حين توقف البعض الآخر على طول السكك، لاحظ النائب الليبرالى ذلك فأعاد للأذهان ذكرى أيام يوليو1914، خاصة ذكرى أمسية إعلان الحرب، وقال: "إن المرء ليعتقد أنه يرى المحاولة السابقة تتجدد". وكانت رؤية هذا النائب صائبة تمامًا؛ إذ كان هناك بالتأكيد صلة تربط الحاضر بالماضى وتجعل ذلك الماضى مستمرًا، فقد جمع التاريخ أطراف الخيط الثورى الممتد من الماضى إلى الحاضر، ذلك الخيط الذى قطعته الحرب، وأعادت ربطه من جديد.
ولم تفعل الجماهير الشعبية شيئًا طيلة هذا اليوم، سوى التحرك من حى إلى حى؛ إذ كانت الشرطة تطاردها بعنف، وتردها الخيالة مع بعض مفارز المشاة وتحتويها. وكانت الجماهير تصيح: "فلتسقط الشرطة!"، ثم تطلق بعد ذلك هتافات التهليل والترحيب بالقوزاق مرارًا وبمزيد من الإصرار. وكان هذا العمل ذا معنى، فقد كانت الجماهير تُضمر حقدًا شرسًا لأفراد الشرطة.
وكانت تستقبل خيَّالة الشرطة بالصفير، وبالأحجار وبقطع الجليد. وكان احتكاك العمال بالجنود مختلفًا تمام الاختلاف. فقد كان العمال والعاملات يتجمعون حول الثكنات، وعلى مقربة من الحراس، والدوريات، وأمام صفوف السدود، ويتبادلون الأحاديث الودِّية مع أفراد الجيش. كانت هذه المرحلة مرحلة جديدة تعزى إلى امتداد الإضراب وإلى التقاء العمال بأفراد الجيش. وهذه المرحلة حتميَّة فى كل ثورة، ولكن يبدو أنها لم تكتب ولم تنشر، وتبرز فى كل مرة مرتدية طابعًا جديدًا، فالذين قرءوا أو كتبوا فى هذا الموضوع لا يعون الحدث عندما يقع.
ضمانة الانتصار
فى هذا اليوم كان النواب يقصون، فى مجلس الدوما الإمبراطورى قصة تقول: إن جموعًا غفيرة من الشعب كانت تغطى كل ميدان زنامنسكايا، وشارع نييفسكى وكل الشوارع المجاورة، وكانوا يتحدثون أيضًا عن وجود ظاهرة غير عادية؛ فقد كانت الجماهير الثورية، تحيى القوزاق والأفواج التى كانت تسير على أنغام الموسيقى العسكرية. ولما سأل أحد النواب عما تعنى هذه الظاهرة أجابه أحد المارة -وكان أول مواطن مر فى تلك اللحظة- "لقد ضرب أحد أفراد الشرطة امرأة بسوطه الجلدى فتدخل جنود القوزاق وطردوا الشرطة". ومن الممكن ألا تكون الأمور قد حدثت على هذا الشكل، ولكن أحدًا لا يستطيع التحقق من ذلك. وكانت الجماهير تعتقد أن هذا هو ما حدث بالفعل، وأن حدوثه لا يتسم بأية غرابة. ولم يسقط هذا الاعتقاد من السماء، ولكنه أتى من تجربة سابقة، كانت فيما بعد ضمانة الانتصار.
وتجمهر عمال مصنع إيريكسون -الذى يعتبر من أحدث مصانع دائرة فيبورغ- وتجمعوا منذ الصباح، بشكل جمهرة تعدادها 2500 رجل، ثم تقدم هؤلاء العمال فى شارع سامبسونيفسكى، فالتقوا بالقوزاق، فدفع ضباط القوزاق خيولهم، وشقوا طريقًا وسط الجمهرة. وعلى عرض الطريق كله، كان القوزاق يخبون بخيولهم. وكانت لحظة حاسمة! ولكن الخيالة مرت بحذر، وبرتل طويل، فى الممر الذى فتحه ضُباطها. وقد كتب كييوروف يصف هذا المنظر قائلاً: "كان بعض الجنود يبتسم، وغمز أحدهم بعينه للعمال كرفيق". كانت غمزة العين هذه تعنى أمرًا ما! ونتيجة لذلك فقد أظهر العمال للقوزاق روحًا ودية ليس فيها أى عداء. وبهذا نقل العمال إلى القوزاق عدوى الثورة بصورة خفيفة. فالجندى الذى غمز بعينه، قلده رفاقه. وعلى الرغم من المحاولات الجديدة للضباط، لم يطرد جنود القوزاق الجمهرة بإصرار وإلحاح ومروا فقط وسطها دون أن يخالفوا الانضباط بصورة مكشوفة.
عين الزعيم لا يحترس من ضربات الأسواط
حدث هذا ثلاث أو أربع مرات؛ حيث وجد الطرفان المتقابلان بعد ذلك أنهما توصلا إلى شيء من التقارب. وبدأ القوزاق يردون بصورة فردية على أسئلة العمال، وتمت أحاديث قصيرة بينهم. ولم يبق من الانضباط إلا أضعف مظاهره، وأدقها، مع خطر تمزق وشيك الوقوع. واندفع الضباط لإبعاد قطعاتهم عن هذه الجموع وقاموا بترتيب تلك القطعات بشكل حاجز يمنع اجتياز الشارع ويحول بين المتظاهرين وبين الوصول إلى المركز، ولقد عمد الضباط إلى ذلك بعد أن امتنع جنودهم عن تفريق العمال، ولكن جهدهم كان ضائعًا. ومع كل هذا يجابه القوزاق الذين كانوا يتمركزون للحراسة بكل شرف "الغطسات" التى قام بها العمال بين سيقان الخيول.
إن الثورة لا تختار سُبلها بمحض إرادتها. فقد عبرت طريقها تحت بطن حصان أحد القوزاق قبل مسيرتها إلى النصر. إنها لفترة رائعة! حتى أن اللمحة التى أعطاها الراوية الذى حدد كل هذه التحولات رائعة أيضًا. وليس هناك ما يدهش فى روايته. فالراوية كان زعيمًا من زعماء هذه الثورة، وكان يسير فى ميادين الثورة ومن خلفه 2000 رجل. وإنه من الطبيعى أن نقول إن عين الزعيم الذى يحترس من ضربات الأسواط الجلدية أو رصاصات العدو عين حادة.
ويبدو أن تحول الرأى فى الجيش لصالح الثورة قد برز فى صفوف القوزاق أولا، مع أنهم كانوا أول أدوات القمع والحملات التأديبية. ورغم كل هذا، فإن ذلك لا يعنى أن القوزاق كانوا ثوريين أكثر من غيرهم. فعلى العكس، كان هؤلاء الملاكين الموسرين الذين يمتطون خيولهم الخاصة، ويغارون على ميزان طبقتهم وخصائصها ومكتسباتها، ويعاملون الفلاحين البسطاء بنوع من الازدراء، ويحذرون من العمال، كان هؤلاء القوزاق مشبعين بالروح المحافظة.
ولهذا فإن التغيرات التى أحدثتها الحرب كانت أبرز لديهم من غيرهم. وبالإضافة إلى هذا، ألم يكونوا هم الذين يُرسلون فى كل الاتجاهات ويُعينون للقيام بالحملات التأديبية بصورة دائمة، ويُزج بهم أمام تيار الشعب، ويُستثار غضبهم؟ ألم يكونوا هم أول من تعرض لاختبار الحرب وتجربتها؟ لقد سئموا هذا الوضع، وأرادوا العودة إلى بيوتهم، ولهذا غمزوا بأعينهم للعمال، وكأنهم يقولون لهم: "افعلوا ما يحلوا لكم إذا كنتم قادرين على ذلك؛ إذ أننا لن نضايقكم". ومع كل هذا، لم تكن هذه الحركات سوى أعراض مؤقتة، ولكنها أعراض كثيرة الدلالة، بَيْد أن الجيش ما زال مرتبطًا بالانضباط. وما زالت خيوطه القيادية بين يدى الحكم الملكي. والكتل العمالية محرومة من السلاح. ولا يفكر قادة هذه الكتل حتى الآن بإنهاء الأزمة وحسمها.
القطبان المتضادان
وفى هذا اليوم، كان جدول أعمال مجلس الوزراء يتضمن فيما يتضمن من الأعمال مسألة الاضطرابات فى العاصمة، فما هو موقف الحكومة من الإضراب وما هو موقفها من المظاهرات؟ لقد بحث مجلس الوزراء مسائل أخرى... كل شىء كان متوقعًا، وقد أعطيت الأوامر لمواجهة كل شىء. وانتقل المجلس بكل بساطة إلى تسيير الأمور العادية.
فما هى الأوامر التى أعطيت؟ ومع أن 28 شرطيًّا أصيبوا بضربات على رءوسهم فى يومى 23، 24 -وهو إحصاء دقيق مذهل- فإن الجنرال خابالوف قائد منطقة بتروغراد العسكرية الذى كان يتمتع بسلطات شبه مطلقة، لم يلجأ بعد إلى إطلاق النار. حقًا! لم يكن عدم لجوئه إلى إطلاق النار بسبب طيبة نفسه! وإنما كان ذلك معدًا وتم التفكير فيه وإنضاجه. فستنطلق طلقات البنادق فى وقتها.
ولم يكن فى الثورة شىء غير متوقع بالنسبة للسلطات سوى اللحظة التى ستندلع فيها. والخلاصة، كان القطبان المتضادان، قطب الثوريين وقطب الحكومة قد استمدا بعناية منذ سنوات طويلة. أما فيما يتعلق بالبلاشفة، فقد انصب كل نشاطهم منذ عام 1905 على تحضير هذه الاستعدادات. أما الحكومة فكانت تلجأ إلى حد كبير للمكيدة ونصب الحيل لسحق الثورة الثانية قبل وقوعها. وابتداء من خريف عام 1916 اتخذ عمل الحكومة -فى هذا المجال- طابعًا منهجيًّا. وفى منتصف شهر يناير 1917 انتهت لجنة مشكلة برئاسة خابالوف من إعداد خطة دقيقة لسحق الانتفاضة الجديدة. وقد قُسِّمت العاصمة بموجب هذه الخطة إلى شبه قطاعات إدارية يشرف عليها "ضباط الشرطة"، كما جُزئت هذه القطاعات إلى قُطَيعات. ووضع الجنرال تشيبيكين -القائد العام لاحتياط الحرس- على رأس كل القوات المسلحة. ووزعت الأفواج على القطيعات. ووضعت الشرطة والدرك والجيش تحت قيادة ضباط أركان عينوا خصيصًا فى كل قطاع من القطاعات الرئيسية الستة.
وبقيت خياله القوزاق تحت تصرف تشيبيكين شخصيًّا للقيام بعمليات واسعة النطاق. ونظمت طريقة القمع بالشكل التالى: تشتبك الشرطة أولا مع المتظاهرين، ثم يزج القوزاق بأسواطهم الجلدية فى المعركة، وأخيرًا توضع القطعات المسلحة بالبنادق والرشاشات فى كل طرف من أطراف القطاعات. كانت هذه الخطة، تطبيقًا موسعًا لتجربة عام 1905، وهى التى طبقت فى فبراير ولم يكن الخطر كامنًا فى الافتقار إلى التوقع، ولا فى التصميم السيئ، وإنما كان الخطر كامنًا من العنصر البشرى.
وسيتوقف السلاح عن الحركة بسبب هذا العنصر. وكانت الخطة تعتمد على مجموع الحامية التى يصل تعدادها إلى 150.000 رجل، ولكن السلطات أعدت فى حقيقة الأمر عشرة آلاف جندى آخرين لاستخدامهم فى العمل. وكان الأمل الكبير ينصب على طلاب مدارس ضباط - الصف، بصورة مستقلة عن أفرد الشرطة الذين كان تعدادهم 3500 رجل.
ونجد تفسير هذا العمل فى تأليف الحامية ذاتها فى هذا التاريخ. فقد كانت مشكلة تقريبًا من الاحتياطيين فقط، وتضم 14 كتيبة احتياطية مرتبطة بأفواج الحرس الموجودة فى الجبهة. وكانت الحامية تتضمن بالإضافة إلى هذا: فوج مشاة احتياطى، وكتيبة سيارات احتياطية، وفرقة آليات مدرعة احتياطية، وعددًا قليلاً من المجندين النقابيين والمدفعيين، وفوجين من قوزاق الدون.
كانت هذه القطعات كثيرة جدًا، بل أكثر مما يلزم لاحتواء الثورة. وكانت أعداد الاحتياط الغزيرة مؤلفة من كتلة بشرية مدربة ومروضة إلى حد ما، أو لم تتعرض بعد إلى هذا الترويض. وبالإضافة إلى كل هذا، ألم يكن الجيش يملك التشكيل ذاته؟ وكان خابالوف يتمسك بالخطة التى وضعها بكل دقة، ففى اليوم الأول وبتاريخ 23، تدخلت الشرطة. وفى 24 أمر خابالوف الخيَّالة بالتقدم فى الشوارع، وكانت هذه الخيالة مسلحة بالأسواط الجلدية والرماح. وكان خابالوف لا يفكر باستخدام المشاة وفتح النار إلا إذا تطورت الأحداث، غير أن الأحداث لم تتركه ينتظر. وفى 25، اتسع نطاق الإضراب، وامتد حتى شمل 240.000 عامل، طبقًا للأرقام الرسمية. وتدخلت بعض العناصر المختلفة وراء الطليعة، كما اشترك عدد لا بأس به من عمال المؤسسات الصغيرة التى أوقفت العمل، وتوقفت حافلات الترام عن السير، وبقيت البيوتات التجارية مغلقة، وفى خلال اليوم نفسه انضم طلاب التعليم العالى إلى الحركة. وفى الظهيرة أخذت الجموع تحتشد بعشرات الألوف وتتجمع حول كاتدرائية قازان وفى الشوارع المجاورة.
وحاولت هذه الجموع تنظيم اجتماعات مفتوحة، فاشتبكت مع الشرطة. وبدأ بعض الرجال بالخطابة أمام تمثال الكسندر الثالث ففتح خيالة الشرطة النار. وسقط أحد الخطباء جريحًا. وانطلقت بعض الطلقات النارية وسط الحشود، فقتل أحد مفوضى الشرطة، وجرح أحد ضباطها كما جرح بعض أفرادها. وقامت الجماهير بقذف رجال الدرك بالزجاجات والمتفجرات، والقنابل. وقد أعطت الحرب دروسًا ممتازة فى هذا الفن. وبرهن الجنود عن سلبية، كما برهنوا عن عداء للشرطة. وأخذت الجماهير تتناقل بانفعال شائعات مفادها أن أفراد الشرطة تعرضوا لنيران كثيفة من القوزاق عندما بدءوا بإطلاق النيران على الشعب فى جوار تمثال ألكسندر الثالث. ولقد اضطر "الفراعنة" الذين يمتطون الخيول (هكذا كانوا يسمون أفراد الشرطة) إلى الفرار هَيْدَبَى. ولم يكن هذا الذى حدث أسطورة نشرت فى أوساط الجماهير عن تصور وتصميم لشحذ شجاعتها وتأجيج حماسها، لأن الحادثة ذاتها -مع أنها حكيت بصورة مختلفة- قد تأكدت من جهات مختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق