الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

تاريخ تهجير المصريين من عبد الناصر إلى السيسي.



مدن القنــــاة .. المأســـاة 


> "ترك الديار والمتاع وتوديع ما ألفت من البلاد وقبور الأجداد وأجمل الذكريات والمضي قدما إلى المجهول".. مصيرٌ سبقَ إليه أهالي مدن القناة والنوبيون وضحايا الفتن الطائفية، وربما يلحق بهم السيناويون عن قريب بعدما ألقت أشباح التهجير بظلالها عليهم وبدت مدنهم وكأنها تتأهب للرحيل.
لم يكد دوي الانفجار الأخير في كمين القراديس بشمال سيناء يخبو صداه موقعا 30 قتيلا ومثلهم من الجرحى، حتى تصاعدت دعاوى "تهجير الأهالي" ليتمكن الجيش من مواجهة "الإرهاب" وسط صمت رسمي وامتناع عن النفي.
وبذلك يعود مصطلح التهجير إلى الواجهة من جديد، مذكرا بعهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي برزت تلك الكلمة في عهده على نطاق واسع بعد تكرارها 3 مرات، اثنتان لأهالي مدن القناة إبان العدوان الثلاثي ثم الاحتلال الصهيوني، وواحدة للنوبيين الذين لا تزال مظلوميتهم حاضرة رغم مرور ما يزيد على نصف قرنٍ من الزمان.
ورغم أن عمليات التهجير بدأت لبعض عائلات النوبيين عند بناء خزان أسوان وتعليته الأولى والثانية أعوام ‏1902‏ و1913‏ و‏1933‏ فإن تلك العمليات لم تكن بالاتساع الذي شهدته عمليات التهجير اللاحقة، إذ كانت محدودة، وإلى أراضٍ قريبة من النهر الذي ارتبطت به الثقافة النوبية، ولم تترك تلك العمليات أثرا كبيرا أو مظلومية واسعة بين النوبيين.
العدوان الثلاثي .. التهجير الأول
وظهرت كلمة "التهجير" على نطاق واسع لأول مرة في تاريخ مصر الحديث مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حيث تم تهجير سكان مدن القناة إلى عمق مصر، لإعداد جبهة القتال على طول قناة السويس من جانب آخر، ونزح من أهل مدن القناة الثلاث ما يزيد على مليون نسمة –يومئذ– إلى الدلتا والصعيد والقاهرة، وعاش بعض هؤلاء المهجرين في المدارس والأماكن العامة التي وفرتها الدولة لهم.
واضطر كثير من أهالي تلك المدن إلى نسيان نمط الحياة الخاص الذي اعتادوا عليه قبل النكسة، ولم تعد عاداتهم وتقاليدهم إلا مجرد ذكريات يروونها لأبنائهم.
وكان قرار التهجير حينها مأساويًا في تطبيقه؛ إذ نزحت الأسر والعائلات في سيارات النقل والقطارات، تاركين وراءهم ديارهم وبيوتهم التي لا يدرون متى سيرجعون إليها ثانيًا، يذهبون إلى المجهول كل حسب حاله.
ونزل بعض أهل القناة على أقاربهم الذين يعرفونهم في مدن الدلتا والصعيد، بعد أن ذهبوا إليهم بحثا عن المأوى، أما من لم يكن لديه أقارب فسكن في المدارس التي تحولت إلى ملجأ لهؤلاء الذين تركوا ديارهم من أجل الحرب، وتشردوا في البلدان المجاورة لهم يبحثون عن مأوى يضمهم، وفقد آلاف الشباب أعمالهم وسقطوا في مستنقعات البطالة.
أما المهجرون الذين توافرت لهم بعض الموارد ساعدتهم على تأجير سكن خاص في منزل في قرية أو في مدينة فلم يعدموا أيضا خبرات المعاناة وضرورة التضحية والتكيف مع بيئة جديدة بكل ما فيها من ملابسات غريبة عليهم وذات قيمة عالية أحيانا أخرى.
بلاد الذهب .. التهجير الظالم
مع بدء بناء السد العالي، بدأت الحكومة المصرية في تهجير النوبيين من قراهم الواقعة على ضفتي النيل، بدءا من شمال الشلال الأول وحتى جنوب الشلال الثاني بامتداد طولي يصل إلى 350 كيلومترا، وحددت الحكومة لهم أراضي بديلة في هضبة كوم أمبو شمال أسوان.
ومس التهجير ما يزيد على 100 ألف نوبي –يومئذ– من قبائل النوبة الثلاث "الكنوز" و"الفاديجة" و"عرب النوبة"، جرى نقل معظمهم إلى الهضبة القاحلة بمركز نصر النوبة بعد أن كانوا يسكنون على ضفتي النهر الذي تربط به ثقافتهم وعاداتهم وسكنوا بجواره منذ فجر التاريخ، وتركوا وراءهم مزارعهم الشاسعة ونخيلهم وقبور أجدادهم وبيوتهم التي غمرتها المياه، وظلت رؤوس النخيل ومآذن المساجد تطل فوق سطح الماء تذكرهم بأرضهم التي لا يزالون يبكونها في أغانيهم وأهازيجهم.
وعند انتقال النوبيين إلى قراهم الجديدة تبين أن 65% من المنازل غير مكتملة الإنشاء، مما دفع أهالي النوبة لتسكين ثلاث وأربع أسر في منزل واحد، كما فوجئ أهالي عدة قرى بانقطاع مياه الشرب التي تعد شريان الحياة لهم، ووجود صنبور مياه واحد فقط مصدر المياه لجميع أهالي القرية، إلى حد تعبير بعضهم عن حسده لبعض كبار السن الذين رفضوا الهجرة وفضلوا أن يغرقوا مع بلدتهم العتيقة.
تغير الأجواء وغياب الحماية الصحية برزت أيضا عندما بدأ الأطفال وكبار السن بدأوا يموتون واحداً تلو الآخر بسبب تغيير ظروف المعيشة، وكان النوبيون يدفنون في اليوم من اثنين إلى ثلاثة أطفال ومسنين تجاوز عمرهم ثمانين عاماً، حتى إنه لم يبق من مواليد عام 1964 طفل واحد على قيد الحياة بسبب ظروف التهجير الصعبة.
ولم تكن العديد من فنون النوبيين وثقافتهم أسعد حالا من كبار السن والأطفال، إذ اضطروا أن يتركوا كثيرا من آثارهم التي لم تسعفهم إجراءات التهجير لنقلها.
ورغم مرور ما يزيد على نصف قرن من الزمان، فإن مظلومية النوبيين لا تزال حاضرة، ولايزال غضبهم حاضرا وهم يرون الأراضي على ضفاف بحيرة ناصر يتم تخصيصها للقرى السياحية بينما يتم تسكينهم في الهضبة القاحلة، مطالبين بأحقيتهم في العودة إلى ضفاف النهر والبحيرة من جديد.
مدن القناة.. المأساة تتكرر
بعد نكسة 1967 وهزيمة الجيش المصري، اضطرت الحكومة حينها لتكرار مأساة أهالي مدن القناة الثلاث من جديد لإعداد الجبهة للقتال من جديد والبدء في شن حرب الاستنزاف انطلاقا من المواقع في غرب القناة، وتم دفع ما يزيد على مليون شخص إلى الرحيل إلى مدن الدلتا والقاهرة والصعيد.
ومثّل التهجير أزمة طاحنة للأهالي الذين تركوا وراء ظهورهم مساكنهم ومصادر أرزاقهم وأعمالهم، وعانوا من البطالة والتشرد وفقدان المأوى والروابط العائلية والأسرية واختلاف العادات والتقاليد، واضطروا إلى تغيير ثقافاتهم وتحويلها إلى جزء من الماضي.
ورغم أنه أتيحت لهم العودة إلى منازلهم بعد انتصار أكتوبر 1973 في عهد الرئيس أنور السادات فإن بعض أهالي تلك المدن ظلوا في القاهرة أو قراهم الجديدة بعد أن استوطنوها مدة طويلة وارتبطت مصالحهم بها، ويمكن القول إن التهجير الثاني محا عادات وثقافات كانت منتشرة بين أهالي مدن القناة بعد أن اضطر معظمهم للذوبان في المدن المصرية المختلفة.
الفتن الطائفية.. التهجير المر
رغم اختفاء مصطلح التهجير عقودا خلال فترة حكم أنور السادات وبدايات عهد مبارك، فإنه عاد للظهور على نطاق أضيق عددا، ولكنه أكثر زخما مع تكرار المشاجرات التي تنشب بين مواطنين مسلمين ومسيحيين وعادة ما يتم إنهاؤها بمجالس صلح عرفية.
ونقلت مراكز حقوقية وتقارير قبطية شكاوى من تهجير عائلات مسيحية بعد تلك الوقائع، كان أبرزها شكاوى تهجير عائلات مسيحية (نحو 15 أسرة) من قرية حجازة قبلي مركز قوص بقنا عام 2006، وأسر (غير محددة العدد) من قرية الكشح في سوهاج بعد أحداث عام 1998 وعام 2000، وجرى الحديث عن تهجير أسر قليلة مع عدة حوادث مماثلة في منطقة عين شمس.
كما لم يتوقف مصطلح التهجير عن الإطلال برأسه بعد الثورة؛ إذ عاود الظهور في أزمات نشبت بين مسلمين ومسيحيين في مدينة رفح بشمال سيناء عام 2012 وجرى الحديث عن تهجير للمسيحيين هناك، وسرعان ما نفت الدولة ولم يتم إثبات ذلك، كما جرى الحديث عن تهجير عائلات مسيحية من مدينة النهضة في العام ذاته بناء على حكم مجالس عرفية، إلا أن اعتراضات مجلس حقوق الإنسان أوقفت ذلك.
الآن..
ومع تردد تقارير إعلامية وأمنية عن تهجير مرتقب لأهالي شمال سيناء بدعوى الحفاظ على الأمن والقضاء على الإرهاب، وسط صمت رسمي وامتناع عن النفي؛ يتخوف مراقبون للشأن السيناوي من أن يؤدي أي تهجير مرتقب إلى محو ثقافات بدوية لا يوجد نظير لها حتى في المجتمعات البدوية العربية الأخرى.. كما أن خطوة كهذه من شأنها أن تجر مظلومية ومأساة طويلة المدى لا تمحوها عقود، كتلك التي لا يزال يشعر بها أهالي النوبة بعد أكثر من 50 عاما.



قد يُمهل اللهُ العبادَ لحكمةٍ تخفى ويغفل عن حقيقتها الورى
قل للذي خدعته قدرةُ ظالمٍ لاتنسَ أن اللهَ يبقى الأقدرا



ليست هناك تعليقات: