الثلاثاء، 21 يونيو 2011

كتاب لمفكر بريطاني يتحول إلي بلاغ للنائب العام المصري


سلسلة أحداث كبري في تاريخ وسياسة مصر المعاصرة 
في المجالين الاقتصادي والزراعي


تقدمت مؤسسة الهلالي للحريات والمترجم بشير السباعي، ببلاغ إلي النائب العام، ضد د. ليلي تكلا المرشحة لنيل جائزة النيل هذا العام، وشركة لوكهيد الأمريكية. البلاغ رقم 14812 لسنة 2011 حول ما تضمنه كتاب للمفكر البريطاني تيموثي ميتشل صدر عام 2002 عن دار نشر جامعة كاليفورنيا وترجمه السباعي وصدر مؤخرا عن المركز القومي للترجمة بعنوان "حكم الخبراء".
واستند البلاغ إلي وقائع موثقة طرحها ميتشل بخصوص تلقي تكلا رشوي قدرها مليون دولار من الشركة بعدما استخدمت تكلا نفوذها لتسهيل شراء ثلاث طائرات نقل من إنتاج الشركة.
بما يعطي مؤشرا علي ضخامة مبلغ الصفقة. (عندما اكتشف مراقبو الحسابات بالبنتاجون الرشوة، تعهدت شركة لوكهيد بعدم دفعها، لكنها قامت بعد ذلك بسنة بدفعها، وفقاً للنيابة الأمريكية، تحت غطاء "رسوم تخليص"). وهي الواقعة التي أوردها المؤلف بصفحته 381 من الفصل السابع «موضوع التنمية».
وأرفقت مؤسسة الهلالي بالبلاغ كافة المستندات المتعلقة بالقضية وأهمها الحكم القضائي الأمريكي بفرض الغرامة علي شركة لوكهيد بعد اعترافها بالجريمة، وهو ما ورد بحاشية الكتاب في أحد فصوله، مشيرا إلي المصدر الذي استند إليه ميتشل في سرد الواقعة وهو تقرير لـ"النيويورك تايمز" بتاريخ 1995. الكتاب صدر عام 2002 عن دار نشر جامعة كاليفورنيا.
وكان السباعي قد طرح القضية في جلسة مناقشة الكتاب بالصالون الثقافي بالمجلس الأعلي للثقافة. وعلي مدونته "مبدأ الأمل" دعا السباعي إلي التحقيق فيما ذكره الكاتب. الكتاب في تسعة فصول مرهق وصعب للغاية لكنه علي أي حال مهم ونادر في طريقته، تبحث فصول هذا الكتاب في سلسلة أحداث كبري في تاريخ وسياسة مصر المعاصرة في المجالين الاقتصادي والزراعي علي مدار قرنين التاسع عشر والعشرين، أتاحت ظروف إقامة المؤلف - له كتاب آخر بعنوان "استعمار مصر" 1991 - في إحدي قري جنوبي البلاد تعرف بنجع الحاجر قرب مدينة الأقصر التعرف عن قرب علي معظم هذه الأحداث، وكان أن نشر أبحاثه عن تلك الفترة في مجلات وكتب ومؤتمرات عديدة في مصر والخارج. يسلط ميتشل الضوء بشكل خاص علي الاقتصاد السياسي الذي يري أنه العنصر الغائب في دراسات المؤرخين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين، يشرح شريف يونس هذه النقطة قائلا: "ما يود المؤلف قوله أن ما نسميه معرفة هو في حد ذاته فعل تنظيم يغير الواقع لا يعبر عنه. فالخريطة الزراعية للريف مثلا لا يعتريها فقط مشاكل في الدقة، لكن هي نفسها تغير توزيع السلطة والمعرفة. وبنفس المنطق يري تيموثي أن علم الاقتصاد هو إجراء سياسي ظهر في فترة معينة ليلبي حاجات معينة".

تمتد فصول الكتاب من ذروة السلطة الاستعمارية البريطانية في مصر في العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر إلي برامج التكيف الهيكلي وتحقيق الاستقرار المالي التي طرحها صندوق النقد الدولي في ختام القرن العشرين. في فصل بعنوان "الناموسة تتكلم" الذي يتحدث عن انتشار ناموسة جامبي يتناول المؤلف مثلث الترابطات بين الحرب والمرض والزراعة، ويقول إنه لا توجد كتابات عن مصر تصف التفاعلات بين التكتيكات العسكرية ومناهج الري والعلاقات البريطانية المصرية والهندسة المائية والطفيليات وصناعة السكر والفلاحين في دراسة واحدة. وهو يري أن المشكلات التي واجهتها الزراعة لم تقتصر علي التسحب من الأرض والتمرد المسلح من قبل القرويين، فقد جلبت أعمال الري واسعة النطاق التي تطلبتها المحاصيل الصناعية قوتين إضافيتين: المرض والديون، يقصد هنا وباء الكوليرا سنة 1865. يوضح شريف: " إن المعرفة في حد ذاتها فعل، والمعرفة الحديثة هي في حد ذاتها فعل استعماري، سواء كانت القوي داخلية أو خارجية. فالقضية ليست فيمن أجري المسح الزراعي وأنهم إنجليز مثلا، فسواء أجروه المصريون أو الإنجليز يتم تعزيز الدولة المركزية الحديثة علي حساب الناس".
التاريخ في مصر من وجهة نظر المؤلف ظل محصورا بين البريطانيين الذين يتلاعبون بالسياسة المصرية ويقاومون اغتصاب الأمريكيين لدورهم، وبين النخب القومية الملكية والارستقراطية الصغيرة مالكة الأرض، ثم طبقة ملاك الأرض التجاريين وأصحاب المشاريع وضباط الجيش، وأخيرا الجماعات التابعة من سكان الريف والطبقات العاملة والنساء. يحلل تيموثي مبدأ السلطة في مصر بأنها تعمل من خلال سلسلة من الأوامر الشخصية ومجموعة مترابطة من الامتيازات والمصالح لا كنظام عام للحكم.
لذا نجده كثيرا ما يقف في فصول الكتاب علي التوازنات التي حكمت أدوار القوي الفاعلة في مصر الستينيات والسبعينيات وأواخر القرن العشرين. فمثلا كان مشروع "توطين البدو" في نظر المؤلف شكلاً من أشكال السيطرة علي الريف والأراضي والأرزاق.
من ناحية أخري مثلت العزب والقري المنظمة تطورا جديدا في آلية توزيع السلطة والاحتجاز والمراقبة والاستبعاد، وزيادة قوي الدولة علي المجتمع الريفي، وشكلا من أشكال القوة الاعتباطية. في باب عن الدراسات الفلاحية يتحدث أخطر فصول الكتاب بعنوان "اختراع وإعادة اختراع الفلاح" عن حكومة ظل أمريكية بالقاهرة، يشرح المؤلف بشيء من التفصيل مضامين الكتابات والدراسات التي أسست لأوضاع الفلاحين في مصر في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ومنها كتاب ريتشارد كريتشفيلد "شحات مصري" وكتاب هنري عيروط "الفلاح المصري"، ويصل إلي حكم نهائي هو افتقار الشرق الأوسط إلي فحوص نقدية للمجتمع الريفي. بصفة عامة تتحدث تلك الدراسات عن التمردات الفلاحية وتطور اهتمام الدولة المصرية بالفلاح مع تعاقب فترات الحكم، ويصل إلي مرحلة تجدد الانخراط الأمريكي في الريف المصري ويتساءل المؤلف إلي أي مدي أثرت وكالة الاستخبارات المركزية علي إنتاج الثقافة الأكاديمية والفكرية حول العالم في الشطر الثاني من القرن العشرين؟ أما الفصل الذي يتناول العنف الريفي فيقدم فيه المؤلف بعض الشواهد علي العنف السياسي ضد الفقراء في ريف مصر في الستينيات، والسبب النموذجي للعنف في القرية بحسب تحليل المؤلف هو نزاع علي السيطرة علي أرضها، بينما يسجل معظم المزارعين الأغنياء أراضيهم تحت أكثر من مسمي، وهذا وحده انتهاكا لقوانين الإصلاح الزراعي. يلفت المؤلف كذلك إلي التخلف عن دراسة مسألة العنف السياسي ضد الفقراء في الكتابة الأكاديمية الغربية عن مصر الريفية في الخمسينيات والستينيات، ويؤكد أن الأمر لا ينم فقط عن مجرد عدم انتباه أو إهمال بل قصد متعمد للإخفاء وتحويل هذا العنف إلي شيء آخر، يدلل علي ذلك بدراستين أمريكيتين تحللان فترة التدخل الناصري في الريف هي: "السياسة الريفية في مصر عبد الناصر" 1971 لجيمس مايفيلد، و"التعبئة السياسية للفلاحين" لإيليا حريق.

أما كتاب مايفيلد فهو عبارة عن دراسة للاتحاد الاشتراكي العربي الذي أنشئ في 1962 كجزء من عملية تدخل رأسمالية الدولة في الريف، وتعتبر تلك الدراسة مواصلة للكتابة الاستعمارية عن الريف المصري، يترجم صاحبها العنف السياسي الريفي إلي أعراض سيكولوجية مرضية ثقافية، فمايفيلد يفسر شخصية الفلاح بوصفها مزيجا غير مستقر من العنف والخنوع، أما حريق فينتقد هذا التوجه في الدراسات الريفية، ويفسر الأمر علي أنه ظاهرة تغيير لا أكثر ولا أقل.
في الفصل السابع بعنوان "موضوع التنمية" يدرس المؤلف إصلاحات السبعينيات والثمانينيات ومنها سياسة الانفتاح الاقتصادي، ويحكم علي عمليات الاستحواذ علي الريف وثروته بوصفها عملية سياسية بحتة، تشابكت فيها مصالح مجموعة من مديري وبيروقراطيي الدولة والقطاع الخاص الذي تسانده الحكومة وكبار ملاك الأراضي، وهذا الاستحواذ يرجع إلي تراث حكومة مركزية قوية بتعبير المؤلف، ويستعين المؤلف بمقولة مسئول ببرنامج تموله الوكالة الأمريكية للتنمية الدولة بجامعة كينتاكي الشرقية وجهها لمسئولين حكوميين محليين مصريين: "حكمت مصر علي مدار قرون كنظام سياسي يتميز بعملية صنع للقرار تتميز بدرجة عالية من المركزية". أما شريف يونس فيقول: "يريد المؤلف التأكيد علي أن هذه المعرفة المتباهية بنفسها هي دوما إجرائية وناقصة، لأنها لا تستطيع أن تلم بالفعل بالظواهر التي تدعي السيطرة عليها وتفسيرها. فهي تقول شيئا، ولكن أثرها شيء آخر. يريد البنك الدولي اقتصاد السوق، ويحدث اقتصاد سوق بالفعل، ولكن بطريقة مختلفة تماما عن التوقعات. وبالتالي فهي تدخلات دائما ناقصة وجزئية. تفعل، ولكنها تفعل في ظروف لا تستطيع أبدا أن تلم بها لأنها استعمارية بمعني مركزية، ولأنها تقوم علي ثنائيات مفتعلة تؤسسها: الإنسان/ الطبيعة، الدولة/ المجتمع، إلي آخره.

فهي معتمدة علي ثنائيات هي في الحقيقة غير منفصلة". في الفصل التاسع والأخير عن مشروع تشوكي ومدن الأحلام، ينتقد المؤلف تطورات تملؤها التناقضات ومخططات كارثية من الناحية البيئية بسبب إقامة واد في الصحراء، في نهاية الكتاب يري تيموثي أن الرأسمالية لم تستطع احتواء رغبات الحكام والسلطة المركزية ولا أن تضع ضوابط للعمليات التوسعية في الصحراء مثلا. كانت توشكي موضوع رغبة الحاكم ليبني شيئا يبقي كذكري لحكمه، أرض أحلام حكاية خيالية تنتظر التحقق ولم تتحقق حتي تنحيه، أراضي الأحلام هذه هي أماكن للرغبة لم تستطع الرأسمالية أن تحتويها.



ليست هناك تعليقات: