لماذا تجمعنا الكراهية ويفرقنا الحب؟
مبادرة لتأسيس «تيار وطنى جامع لمساندة مشروع رئاسى».
تعلمت الحركة الوطنية كيف تتوحد لتهدم نظاما قائما
وأثبتت فاعليتها فى يناير من العام الماضى
عليها الآن أن تتعلم كيف تتوحد لتبنى نظاماً ديمقراطياً يستوعب الجميع ولا يهمش أحدا ويضمن انخراط الجميع ومشاركتهم فى صنع مستقبل هذا البلد الكبير.
توحّد الشعب المصرى فى كراهيته للنظام السابق، فسعى لإسقاطه ونجح فعلا فى الإطاحة برأسه.
وكان يفترض أن يتوحد فى حبه للوطن وأن يسعى لبناء نظام بديل يصلح ما أفسده النظام السابق، ويضع الأسس التى تكفل عدم إعادة إنتاج منظومة القيم والسياسات التى أوصلتنا إلى ما نحن فيه من تخلف ومهانة، وتضمن مشاركة جميع الطاقات الحية والخبرات الخلاقة فى صنع مشروع للنهضة يمكن مصر من احتلال المكانة التى تليق بها على جميع الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، غير أنه فشل فى ذلك فشلا ذريعا.
فما إن سقط رأس النظام السابق حتى تفرق الجمع شيعاً وأحزاباً، فعجز الوطن عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام وأصبح أبعد ما يكون عن النقطة التى يصبح عندها جاهزا للإطلاق نحو المستقبل وأقرب ما يكون إلى النقطة التى تدفعه للدوران إلى الخلف والعودة إلى الوراء. ورغم اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها لم يكن الأمل فى بناء نظام يتسع للجميع ولا يهمش أو يستبعد أحدا أبعد مما هو عليه الآن. فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى ائتمنه شعب مصر على مصير ثورته، أدار المرحلة الانتقالية بطريقة لم تفرز حتى الآن سوى برلمان مشوّه لا يعبر تعبيرا صحيحا عن قوى الثورة، وليس من المتوقع أن تفرز خلال الشهور القليلة المتبقية دستورا يؤسس لنظام ديمقراطى حقيقى، أو رئيسا للبلاد قادرا على انتشالها من الواقع المر والحزين. والنخبة، بفصائلها السياسية والفكرية والاجتماعية، تبدو منغمسة حتى أذنيها فى تبادل الاتهامات وفى ممارسة هواية فاسدة تدفعها للجوء كثيراً إلى لغة التكفير والتخوين، ويصر التيار الممثل للطرف المنتصر فى الانتخابات البرلمانية على بناء نظام على مقاسه هو يتيح له إفراز نفس الآليات التى تسمح له بممارسة نفس أساليب النظام السابق فى قمع وتهميش المخالفين له.
ولأننا نقترب كثيرا من موعد انتخابات رئاسية هى الأهم فى تاريخ مصر القديم والحديث وتتيح أمام النخبة فرصة، ربما تكون هى الأخيرة لاستعادة الأمل فى صنع مستقل أفضل، ربما كان من المفيد أن نبحث فيها عن إجابة على أسئلة يبدو أننا نهرب من مجرد طرحها على أنفسنا. فلماذا تجمعنا الكراهية إلى درجة التوحد، وهو ما حدث فعلا حين توحدنا فى مواجهة نظام قديم كرهناه ونجحنا فى إسقاط رأسه، بينما يفرقنا الحب إلى درجة التشرذم والعجز عن إنقاذ المحبوب، وهو ما حدث فعلا بمجرد أن نجحنا فى إسقاط رأس النظام القديم وعجزنا عن بناء نظام جديد أفضل منه. هل لأننا نحب وطننا بما فيه الكفاية، أم لأننا لا نعرف كيف نحب هذا الوطن ويصر كل فصيل على أن يعبر عن هذا الحب بطريقته الخاصة ويعتبرها الوحيدة الصادقة أو المخلصة؟ لا أظن أن هناك شعباً فى العالم يحب وطنه ويرتبط به مثلما يحب المصريون وطنهم ويشعرون بالانتماء إليه.
غير أن هذا الشعور الجارف بالانتماء للوطن يتجلى على أفضل ما يكون حين يعيش المصرى فى الغربة، بعيدا عن وطنه، أو حين يواجه المصريون فى الداخل محتلا غازيا، أو قوة أجنبية تطمح فى فرض هيمنتها عليه وسلب إرادته المستقلة. غير أن الوضع يختلف كثيرا حين يتعين على المصريين إدارة شؤونهم بأنفسهم، إذ يلاحظ هنا أنهم نادرا ما يتمكنون من العمل معا بروح الفريق، رغم مهاراتهم الفردية الكبيرة وقدراتهم العالية على الابتكار والإبداع، حيث تبدو نخبهم فى معظم الأحيان عاجزة تماما عن إرساء تقاليد للعمل المشترك تمكنها من إنجاز المهام المطلوبة. ولأن الشعب المصرى اعتاد طوال تاريخه على التوحد وراء زعيم يحبه أو رضخ لفرعون يرهبه، لم تتح أمامه فرصة حقيقية لإنجاز عمل جماعى تتطلب إدارته فى العصر الحديث مؤسسات راسخة المعالم، وآليات محددة لصنع القرار، ومنهجاً علمياً واضحاً ومدروساً، وقواعد وإجراءات تنظيمية متفقاً عليها، وكلها أمور مازال يفتقدها كثيرا ولم تتمرس عليها نخبه السياسية أو الفكرية.
ويلاحظ أنه فى الحالات القليلة التى انتفض فيها، لمقاومة محتل أجنبى أو لإسقاط مستبد محلى، بدا الشعب المصرى دائما أذكى وأكثر جرأة من نخبته، بل وقادرا على تخطيها وشدها إلى مواقعه ومواقفه هو، بدلا من الانقياد وراءها والركون إلى شعاراتها. لكنه ما إن يسلم زمام أمره إلى جماعة من النخبة حتى تظهر عليها أعراض أمراض الاستبداد المزمنة، فتنقسم على نفسها وتشتد صراعاتها حول قضايا عديدة، عادة ما تكون شخصية حتى وإن بدت فى ظاهرها موضوعية، إلى أن يتمكن أعداء الثورة من الانقضاض عليها. حدث هذا فى ثورة ١٩١٩، ويبدو واضحاً أنه سيتكرر فى ثورة ٢٠١١، رغم الفارق الكبير بين ثورتين يفصل بينهما قرن كامل من الزمان، فقد تمتعت ثورة ١٩١٩ بقيادة كاريزمية ممثلة فى سعد زغلول وبإطار تنظيمى يقود حركتها السياسية ممثلا فى حزب الوفد، بينما افتقدت ثورة ٢٥ يناير إلى كليهما. صحيح أن ثورة ١٩ حوصرت بين مطرقة الاحتلال الأجنبى وسندان القصر، مثلما تبدو ثورة ٢٥ يناير محاصرة الآن بشبكة مصالح النظام القديم فى الداخل والقوى الإقليمية والدولية المرتبطة بها فى الخارج، إلا أن تشرذم وانقسام النخب التى ادعت تمثيلها للثورتين كان هو العامل الحاسم فى الانتكاسة الفعلية أو المحتملة لكليهما. وفيما يتعلق بثورة ٢٠١١، أظن أنه بات واضحاً الآن أن النخب السياسية والفكرية المختلفة، والتى تمثل خليطا من شبكة المصالح المرتبطة بالنظام القديم وبالقوى الثائرة عليه فى الوقت نفسه، خاضت فيما بينها معارك ضارية، بدءاً بمعركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، مرورا بصراع المليونيات والمطالب الفئوية، وانتهاء بمعركة الانتخابات البرلمانية، فازت فيها شرائح تنتمى إلى تيار الإسلام السياسى. غير أن شرائح من النخب التى تنتمى إلى تيارات أخرى استطاعت أن تحصل لنفسها فى الوقت نفسه على مواقع سياسية وإعلامية تجعلها تبدو أكثر ارتباطاً بمصالح نظام مختلط مازال فى طور التكوين. ولأن معالم النظام الجديد لن تكتمل قبل الانتهاء من صياغة الدستور، من ناحية، وانتخاب رئيس للجمهورية، من ناحية أخرى، فمن الطبيعى أن تظل المعارك محتدمة بين كل الفصائل إلى ما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية.
لقد بدأت قطاعات حيوية من النخبة السياسية والفكرية فى مصر تستشعر خطورة وأهمية الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتى قد تؤدى إلى وأد الثورة فعلا، وبدأت تتحرك من أجل القيام بمبادرة لتأسيس «تيار وطنى جامع لمساندة مشروع رئاسى». يقول بيان صدر يوم الجمعة الماضى إن هذا التيار «يستهدف إيجاد توافق وطنى على فريق عمل رئاسى يتكون من رئيس ونائبين يحيط بهم مجموعة كاملة من شخصيات وطنية لها إسهاماتها السياسية والفكرية والنضالية، وتملك من الرؤى والسياسات ما يمكن هذا الفريق الرئاسى من تطبيق سياسات جديدة قادرة على إخراج مصر من أزمتها الراهنة، ويضم رموزاً متنوعة من مسلمين ومسيحيين، يسياريين ويمينيين، ليبراليين وآخرين منتمين لمرجعيات دينية إسلامية، ليشكلوا معاً وحدة فعالة وعنواناً وطنياً جامعاً، ورسالة لكل بقاع الأرض أن هذه هى مصر المستقبل بكل تجلياتها وطموحها الإنسانى النبيل للحرية والعدالة الاجتماعية، تحقيقاً لاستعادة كرامة المواطن، وإعادة الاعتبار لمكانة الوطن». وهذا كلام جميل لا يملك كل وطنى مخلص سوى الاتفاق معه والانخراط فيه لتحويله إلى واقع معاش، لأنه يتسق تماما مع كل ما تطالب به الحركة الوطنية المصرية الحديثة منذ تأسيسها فى بداية القرن التاسع عشر. غير أن الكلام شىء والواقع شىء آخر.
فقد أتيحت فرص عديدة للتفاعل إيجابيا وعن قرب مع كل الحركات السياسية التى تشكلت عبر السنوات الماضية، وصنعت حالة التعبئة التى وصلت ذروتها باندلاع ثورة ٢٥ يناير، بدءاً بحركة كفاية وانتهاء بالجمعية الوطنية للتغيير. وكان كل منها يبدأ كحركة توافقية تضم أغلب ألوان الطيف السياسى والفكرى فى مصر، وتشكل فى حينه نقلة نوعية فى أساليب العمل السياسى والتعبوى، ثم يبدأ وهجها فى الخفوت تدريجياً، بسبب صراعات شخصية وتكالب على تولى مواقع المسؤولية والظهور الإعلامى، التى تنطفئ تماما لتظهر بعد ذلك حركة جديدة تمر بذات الأطوار. ورغم الدور المهم الذى لعبته كل من هذه الحركات فى بناء حالة التعبئة العامة التى مهدت لثورة ٢٥ يناير إلا أن أيا منها لم يتمكن من تفجير هذه الثورة، والتى فاجأت الجميع، وليس بوسع أى منها أن يدعى لنفسه أبوتها وحده، ليثبت الشعب مرة أخرى أنه متقدم دائما على نخبته، وأنه المعلم الحقيقى لكل من يريد أن يتعلم. لذا آمل أن يتمكن كل من يرغب فى المشاركة فى تأسيس تيار وطنى جامع أن يدرك أن هذا التيار مطلوب لذاته ولأداء مهام تبدو لى أهم وأكبر كثيراً من المهمة الرئاسية العاجلة التى من أجلها تشكل. إن السعى لتشكيل فريق رئاسى قادر على خوض الانتخابات الرئاسية والفوز فيها هدف نبيل ومهم جدا، لكنه صعب المنال. فالانتخابات أصبحت على الأبواب، ورغم أن جميع الأحزاب التى لها ثقل فى البرلمان ليس لها مرشح رسمى من صفوفها فى انتخابات الرئاسة القادمة، إلا أنها ستعمل بالقطع على إدارة معركتها من وراء ستار، بالعمل أولا على تسهيل حصول مرشحها المفضل على دعم نوابها فى البرلمان و/أو إعطاء الأوامر لقواعدها التنظيمية للمساعدة فى جمع التوقيعات التى تمكنه من استيفاء إجراءات الترشح، ثم بالمشاركة فى حملته الانتخابية ودعوة ناخبيها للتصويت له.
لذا سيكون على جماعة «التيار الوطنى» أن تنسق مع الأحزاب التى يمكن أن تقتنع بالفكرة وبالشروط المتفق عليها لتشكيل فريق رئاسى، أو البحث عن مرشح مستقل تماما عن الأحزاب القائمة وليس عليه تحفظات من جانب أى منها، وهو أمر ربما يكون قد فات أوانه. لذا يبدو لى أن على القوى الوطنية فى جميع الأحوال تنظيم صفوفها منذ الآن، بصرف النظر عن معركة الرئاسة الحالية ومدى نجاحها أو إخفاقها فى مشروع «الفريق الرئاسى». فأمام الحركة الوطنية معركة طويلة الأجل يتعين خوضها من أجل التأسيس لنظام ديمقراطى لم يتشكل بعد ولا يلوح تشكيله فى الأفق القريب. ولأن معركة التأسيس لنظام ديمقراطى هى معركة أكبر وأصعب من أن يكسبها أحد بمفرده، سواء كان حزباً أو تياراً أيديولوجياً، وإنما هى معركة قابلة للكسب، ولكن على المدى الطويل، إن تصدى لها تيار وطنى حقيقى يضم اليمين واليسار، الإسلامى والمسيحى، الاشتراكى والرأسمالى، فمن الضرورى اتخاذ الخطوات التى تضمن تشكيله، بالتشاور مع شباب أحزاب بدأ يتمرد على قياداته التقليدية، ومع شخصيات عامة قادرة على المساهمة فى بنائه، مستفيدين من أخطاء التجارب السابقة. المهم أن يدرك الجميع أولويات هذه المرحلة، وأن يكونوا جاهزين لإعادة ترتيبها بما يتناسب مع ظروف وملابسات كل مرحلة، واتخاذ الضمانات اللازمة للحيلولة دون شخصنة القضايا وتبديد الجهود فيما لا طائل من ورائه. لقد تعلمت الحركة الوطنية كيف تتوحد لتهدم نظاما قائما، وأثبتت فاعليتها فى يناير من العام الماضى، وعليها الآن أن تتعلم كيف تتوحد لتبنى نظاماً ديمقراطياً يستوعب الجميع ولا يهمش أحدا ويضمن انخراط الجميع ومشاركتهم فى صنع مستقبل هذا البلد الكبير.
فما إن سقط رأس النظام السابق حتى تفرق الجمع شيعاً وأحزاباً، فعجز الوطن عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام وأصبح أبعد ما يكون عن النقطة التى يصبح عندها جاهزا للإطلاق نحو المستقبل وأقرب ما يكون إلى النقطة التى تدفعه للدوران إلى الخلف والعودة إلى الوراء. ورغم اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها لم يكن الأمل فى بناء نظام يتسع للجميع ولا يهمش أو يستبعد أحدا أبعد مما هو عليه الآن. فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى ائتمنه شعب مصر على مصير ثورته، أدار المرحلة الانتقالية بطريقة لم تفرز حتى الآن سوى برلمان مشوّه لا يعبر تعبيرا صحيحا عن قوى الثورة، وليس من المتوقع أن تفرز خلال الشهور القليلة المتبقية دستورا يؤسس لنظام ديمقراطى حقيقى، أو رئيسا للبلاد قادرا على انتشالها من الواقع المر والحزين. والنخبة، بفصائلها السياسية والفكرية والاجتماعية، تبدو منغمسة حتى أذنيها فى تبادل الاتهامات وفى ممارسة هواية فاسدة تدفعها للجوء كثيراً إلى لغة التكفير والتخوين، ويصر التيار الممثل للطرف المنتصر فى الانتخابات البرلمانية على بناء نظام على مقاسه هو يتيح له إفراز نفس الآليات التى تسمح له بممارسة نفس أساليب النظام السابق فى قمع وتهميش المخالفين له.
ولأننا نقترب كثيرا من موعد انتخابات رئاسية هى الأهم فى تاريخ مصر القديم والحديث وتتيح أمام النخبة فرصة، ربما تكون هى الأخيرة لاستعادة الأمل فى صنع مستقل أفضل، ربما كان من المفيد أن نبحث فيها عن إجابة على أسئلة يبدو أننا نهرب من مجرد طرحها على أنفسنا. فلماذا تجمعنا الكراهية إلى درجة التوحد، وهو ما حدث فعلا حين توحدنا فى مواجهة نظام قديم كرهناه ونجحنا فى إسقاط رأسه، بينما يفرقنا الحب إلى درجة التشرذم والعجز عن إنقاذ المحبوب، وهو ما حدث فعلا بمجرد أن نجحنا فى إسقاط رأس النظام القديم وعجزنا عن بناء نظام جديد أفضل منه. هل لأننا نحب وطننا بما فيه الكفاية، أم لأننا لا نعرف كيف نحب هذا الوطن ويصر كل فصيل على أن يعبر عن هذا الحب بطريقته الخاصة ويعتبرها الوحيدة الصادقة أو المخلصة؟ لا أظن أن هناك شعباً فى العالم يحب وطنه ويرتبط به مثلما يحب المصريون وطنهم ويشعرون بالانتماء إليه.
غير أن هذا الشعور الجارف بالانتماء للوطن يتجلى على أفضل ما يكون حين يعيش المصرى فى الغربة، بعيدا عن وطنه، أو حين يواجه المصريون فى الداخل محتلا غازيا، أو قوة أجنبية تطمح فى فرض هيمنتها عليه وسلب إرادته المستقلة. غير أن الوضع يختلف كثيرا حين يتعين على المصريين إدارة شؤونهم بأنفسهم، إذ يلاحظ هنا أنهم نادرا ما يتمكنون من العمل معا بروح الفريق، رغم مهاراتهم الفردية الكبيرة وقدراتهم العالية على الابتكار والإبداع، حيث تبدو نخبهم فى معظم الأحيان عاجزة تماما عن إرساء تقاليد للعمل المشترك تمكنها من إنجاز المهام المطلوبة. ولأن الشعب المصرى اعتاد طوال تاريخه على التوحد وراء زعيم يحبه أو رضخ لفرعون يرهبه، لم تتح أمامه فرصة حقيقية لإنجاز عمل جماعى تتطلب إدارته فى العصر الحديث مؤسسات راسخة المعالم، وآليات محددة لصنع القرار، ومنهجاً علمياً واضحاً ومدروساً، وقواعد وإجراءات تنظيمية متفقاً عليها، وكلها أمور مازال يفتقدها كثيرا ولم تتمرس عليها نخبه السياسية أو الفكرية.
ويلاحظ أنه فى الحالات القليلة التى انتفض فيها، لمقاومة محتل أجنبى أو لإسقاط مستبد محلى، بدا الشعب المصرى دائما أذكى وأكثر جرأة من نخبته، بل وقادرا على تخطيها وشدها إلى مواقعه ومواقفه هو، بدلا من الانقياد وراءها والركون إلى شعاراتها. لكنه ما إن يسلم زمام أمره إلى جماعة من النخبة حتى تظهر عليها أعراض أمراض الاستبداد المزمنة، فتنقسم على نفسها وتشتد صراعاتها حول قضايا عديدة، عادة ما تكون شخصية حتى وإن بدت فى ظاهرها موضوعية، إلى أن يتمكن أعداء الثورة من الانقضاض عليها. حدث هذا فى ثورة ١٩١٩، ويبدو واضحاً أنه سيتكرر فى ثورة ٢٠١١، رغم الفارق الكبير بين ثورتين يفصل بينهما قرن كامل من الزمان، فقد تمتعت ثورة ١٩١٩ بقيادة كاريزمية ممثلة فى سعد زغلول وبإطار تنظيمى يقود حركتها السياسية ممثلا فى حزب الوفد، بينما افتقدت ثورة ٢٥ يناير إلى كليهما. صحيح أن ثورة ١٩ حوصرت بين مطرقة الاحتلال الأجنبى وسندان القصر، مثلما تبدو ثورة ٢٥ يناير محاصرة الآن بشبكة مصالح النظام القديم فى الداخل والقوى الإقليمية والدولية المرتبطة بها فى الخارج، إلا أن تشرذم وانقسام النخب التى ادعت تمثيلها للثورتين كان هو العامل الحاسم فى الانتكاسة الفعلية أو المحتملة لكليهما. وفيما يتعلق بثورة ٢٠١١، أظن أنه بات واضحاً الآن أن النخب السياسية والفكرية المختلفة، والتى تمثل خليطا من شبكة المصالح المرتبطة بالنظام القديم وبالقوى الثائرة عليه فى الوقت نفسه، خاضت فيما بينها معارك ضارية، بدءاً بمعركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، مرورا بصراع المليونيات والمطالب الفئوية، وانتهاء بمعركة الانتخابات البرلمانية، فازت فيها شرائح تنتمى إلى تيار الإسلام السياسى. غير أن شرائح من النخب التى تنتمى إلى تيارات أخرى استطاعت أن تحصل لنفسها فى الوقت نفسه على مواقع سياسية وإعلامية تجعلها تبدو أكثر ارتباطاً بمصالح نظام مختلط مازال فى طور التكوين. ولأن معالم النظام الجديد لن تكتمل قبل الانتهاء من صياغة الدستور، من ناحية، وانتخاب رئيس للجمهورية، من ناحية أخرى، فمن الطبيعى أن تظل المعارك محتدمة بين كل الفصائل إلى ما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية.
لقد بدأت قطاعات حيوية من النخبة السياسية والفكرية فى مصر تستشعر خطورة وأهمية الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتى قد تؤدى إلى وأد الثورة فعلا، وبدأت تتحرك من أجل القيام بمبادرة لتأسيس «تيار وطنى جامع لمساندة مشروع رئاسى». يقول بيان صدر يوم الجمعة الماضى إن هذا التيار «يستهدف إيجاد توافق وطنى على فريق عمل رئاسى يتكون من رئيس ونائبين يحيط بهم مجموعة كاملة من شخصيات وطنية لها إسهاماتها السياسية والفكرية والنضالية، وتملك من الرؤى والسياسات ما يمكن هذا الفريق الرئاسى من تطبيق سياسات جديدة قادرة على إخراج مصر من أزمتها الراهنة، ويضم رموزاً متنوعة من مسلمين ومسيحيين، يسياريين ويمينيين، ليبراليين وآخرين منتمين لمرجعيات دينية إسلامية، ليشكلوا معاً وحدة فعالة وعنواناً وطنياً جامعاً، ورسالة لكل بقاع الأرض أن هذه هى مصر المستقبل بكل تجلياتها وطموحها الإنسانى النبيل للحرية والعدالة الاجتماعية، تحقيقاً لاستعادة كرامة المواطن، وإعادة الاعتبار لمكانة الوطن». وهذا كلام جميل لا يملك كل وطنى مخلص سوى الاتفاق معه والانخراط فيه لتحويله إلى واقع معاش، لأنه يتسق تماما مع كل ما تطالب به الحركة الوطنية المصرية الحديثة منذ تأسيسها فى بداية القرن التاسع عشر. غير أن الكلام شىء والواقع شىء آخر.
فقد أتيحت فرص عديدة للتفاعل إيجابيا وعن قرب مع كل الحركات السياسية التى تشكلت عبر السنوات الماضية، وصنعت حالة التعبئة التى وصلت ذروتها باندلاع ثورة ٢٥ يناير، بدءاً بحركة كفاية وانتهاء بالجمعية الوطنية للتغيير. وكان كل منها يبدأ كحركة توافقية تضم أغلب ألوان الطيف السياسى والفكرى فى مصر، وتشكل فى حينه نقلة نوعية فى أساليب العمل السياسى والتعبوى، ثم يبدأ وهجها فى الخفوت تدريجياً، بسبب صراعات شخصية وتكالب على تولى مواقع المسؤولية والظهور الإعلامى، التى تنطفئ تماما لتظهر بعد ذلك حركة جديدة تمر بذات الأطوار. ورغم الدور المهم الذى لعبته كل من هذه الحركات فى بناء حالة التعبئة العامة التى مهدت لثورة ٢٥ يناير إلا أن أيا منها لم يتمكن من تفجير هذه الثورة، والتى فاجأت الجميع، وليس بوسع أى منها أن يدعى لنفسه أبوتها وحده، ليثبت الشعب مرة أخرى أنه متقدم دائما على نخبته، وأنه المعلم الحقيقى لكل من يريد أن يتعلم. لذا آمل أن يتمكن كل من يرغب فى المشاركة فى تأسيس تيار وطنى جامع أن يدرك أن هذا التيار مطلوب لذاته ولأداء مهام تبدو لى أهم وأكبر كثيراً من المهمة الرئاسية العاجلة التى من أجلها تشكل. إن السعى لتشكيل فريق رئاسى قادر على خوض الانتخابات الرئاسية والفوز فيها هدف نبيل ومهم جدا، لكنه صعب المنال. فالانتخابات أصبحت على الأبواب، ورغم أن جميع الأحزاب التى لها ثقل فى البرلمان ليس لها مرشح رسمى من صفوفها فى انتخابات الرئاسة القادمة، إلا أنها ستعمل بالقطع على إدارة معركتها من وراء ستار، بالعمل أولا على تسهيل حصول مرشحها المفضل على دعم نوابها فى البرلمان و/أو إعطاء الأوامر لقواعدها التنظيمية للمساعدة فى جمع التوقيعات التى تمكنه من استيفاء إجراءات الترشح، ثم بالمشاركة فى حملته الانتخابية ودعوة ناخبيها للتصويت له.
لذا سيكون على جماعة «التيار الوطنى» أن تنسق مع الأحزاب التى يمكن أن تقتنع بالفكرة وبالشروط المتفق عليها لتشكيل فريق رئاسى، أو البحث عن مرشح مستقل تماما عن الأحزاب القائمة وليس عليه تحفظات من جانب أى منها، وهو أمر ربما يكون قد فات أوانه. لذا يبدو لى أن على القوى الوطنية فى جميع الأحوال تنظيم صفوفها منذ الآن، بصرف النظر عن معركة الرئاسة الحالية ومدى نجاحها أو إخفاقها فى مشروع «الفريق الرئاسى». فأمام الحركة الوطنية معركة طويلة الأجل يتعين خوضها من أجل التأسيس لنظام ديمقراطى لم يتشكل بعد ولا يلوح تشكيله فى الأفق القريب. ولأن معركة التأسيس لنظام ديمقراطى هى معركة أكبر وأصعب من أن يكسبها أحد بمفرده، سواء كان حزباً أو تياراً أيديولوجياً، وإنما هى معركة قابلة للكسب، ولكن على المدى الطويل، إن تصدى لها تيار وطنى حقيقى يضم اليمين واليسار، الإسلامى والمسيحى، الاشتراكى والرأسمالى، فمن الضرورى اتخاذ الخطوات التى تضمن تشكيله، بالتشاور مع شباب أحزاب بدأ يتمرد على قياداته التقليدية، ومع شخصيات عامة قادرة على المساهمة فى بنائه، مستفيدين من أخطاء التجارب السابقة. المهم أن يدرك الجميع أولويات هذه المرحلة، وأن يكونوا جاهزين لإعادة ترتيبها بما يتناسب مع ظروف وملابسات كل مرحلة، واتخاذ الضمانات اللازمة للحيلولة دون شخصنة القضايا وتبديد الجهود فيما لا طائل من ورائه. لقد تعلمت الحركة الوطنية كيف تتوحد لتهدم نظاما قائما، وأثبتت فاعليتها فى يناير من العام الماضى، وعليها الآن أن تتعلم كيف تتوحد لتبنى نظاماً ديمقراطياً يستوعب الجميع ولا يهمش أحدا ويضمن انخراط الجميع ومشاركتهم فى صنع مستقبل هذا البلد الكبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..للقراء كامل الحرية فى التعبير عن آرائهم عن طريق التعليقات..
.. ولكن يمنع استخدام ألفاظ مسيئة أو السباب أو التعرض لحريات الآخرين.