بعد إلغاء معاهدة 1936م بدأت علي الفور عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال في منطقة القناة ، وتفجر الغضب الشعبي بصورة لم يسبق لها مثيل ، وتساقط الشهداء ، وعجزت قوات البوليس عن مواجهة قوات الاحتلال ، وتساءل الناس وكانوا علي حق تماما :
أين الجيش ؟
والحقيقة أننا بدأنا نشعر بحرج شديد ، وكنا قد طلبنا بإحالة عدد من الضباط إلي الاستيداع ليتمكنوا من السفر إلي القناة ورفض طلبنا .
ويعرض لنا الأستاذ / عبد الرحمن الرافعي في كتابه " مقدمات ثورة يوليو 1952م" مشاهد من ثورة الشعب المصري ومعاركه ضد الاحتلال الانجليزي بعد إلغاء معاهدة 1936م نذكر بعض من عناوينها الرئيسية :
- انسحاب العمال المصريين من المعسكرات البريطانية .
- إضراب المتعهدين والموردين .
- معركة الإسماعيلية الأولى 16 أكتوبر سنة 1951 .
- معركة بورسعيد الأولى 16 أكتوبر سنة 1951 .
- احتلال كوبري الفردان .
- احتلال جمرك السويس .
- عزل منطقة القنال وإقامة حكم عسكري بريطاني فيها .
- معركة الإسماعيلية الثانية 17 و 18 نوفمبر. 1951
- جلاء العائلات البريطانية .
- معركة السويس الأولى 3 ديسمبر سنة 1951 .
- ضرب محافظة الإسماعيلية بالمدافع 17 ديسمبر سنة 1951 .
- منع المظاهرات وإغلاق المدارس .
- موقعة كفر أحمد عبده 8 ديسمبر سنة 1951 .
- المظاهرات الصاخبة ضد فاروق .
- تهديدات الجنرال روبرتسن 31 ديسمبر سنة 1951 ، واستمرار الكفاح في القنال.
- محاولة اغتيال الجنرال اكسهام 31 ديسمبر سنة 1951 .
- معركة أخرى في السويس 3 – 4 يناير سنة 1952 .
- معركة أبي صوير 4 يناير سنة 1952 .
- معركة المحسمة 9 يناير سنة 1952 .
- معركة التل الكبير 12 – 13 يناير سنة 1952 .
- اقتراب الإنجليز من القاهرة .
- تجدد المظاهرات والاضطرابات في القاهرة .
- مجزرة الإسماعيلية 25 يناير سنة 1952 ضد ضباط وأفراد الشرطة .
- حريق القاهرة 26 يناير 1952م .
>
في لفتة مجاملة من الأستاذ / عبد الرحمن الرافعي للجيش المصري يقول :
(على الرغم من أن الجيش لم يشترك في معارك القنال سنة 19521951-، فإنه كان متجاوبًا مع الشعب في أهدافه وفي كفاحه ).
وفي موضع آخر من ذات الكتاب حاول الأستاذ / عبد الرحمن الرافعي تبرير عدم مشاركة الجيش في معارك القنال عامي 1951م – 1952م بقوله :
( على أن الحكومة والضباط الأحرار قد أحسنوا صنعًا بتجنيب الجيش المصري الاشتباك مع الإنجليز في معركة سافرة أثناء الكفاح في القنال سنة 1951 – 1952 ، وقد كان الإنجليز يودون هذا الاشتباك ، ليستدرجوا الجيش إلى منازلتهم في معركة لم يكن مستعدًا لها ، وفي هذه الحالة كانت تستطيع بريطانيا أن تقضي على القوة الناشئة في الجيش المصري ، وأن تكسب مركزًا تناله في ميدان القتال ، فتزداد تماديًا في اغتصابها ، وتزداد مصر ضعفًا أمامها ، ولم يكن غائبًا عن الأذهان ما كسبه الإنجليز من انتصارهم على الجيش المصري في معارك الحرب العرابية سنة 1882 ، ولقد فطنت الحكومة كما فطن الضباط الأحرار إلى هذه الحيلة ، فاجتنبوا وقوع اشتباك مسلح بين الجيش والبريطانيين ، ووكلوا إلى قوات البوليس مهمة حفظ النظام وحماية أرواح المواطنين في منطقة القنال ، ولقد أدى رجال البوليس هذه المهمة على أكمل وجه كما بينا من قبل.
حاول الإنجليز أن يتخذوا من هذا الموقف وسيلة للوقيعة بين الشعب والجيش ، فصرح أنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في شهر ديسمبر سنة 1951 "بأن الجيش المصري هو أشد المصريين حبًا في السلام وأن علاقته بنا هي علاقة الأصدقاء.
ولكن هذه الحيلة لم تخف على فطنة الشعب ، فإنه كان يعلم علم اليقين أن الجيش لم يكن صديقًا للاستعمار ولا لأعوان الاستعمار ، ولم يكن موقفه في اجتناب الدخول وقتئذ في معارك ضد الجيش البريطاني إلا تلبية لإرادة الشعب في أن لا يدخل حربًا لم يكن مستعدًا لها ، ولم يكن من الحكمة أن تتكرر مأساة فلسطين مرة أخرى ، تلك المأساة التي نشأت عن دخول مصر الحرب على غير استعداد للقتال ، وإذا كانت مأساة فلسطين سنة 1948 محدودة الدائرة لأنها وقعت خارج حدود مصر، فإن المأساة تنقلب إلى كارثة إذا دخل الجيش المصري سنة 1951-1952 في حرب مع الجيش البريطاني في منطقة القنال قبل أن يكتمل استعداده.
بالطبع هي مبررات غير مقبولة ، وناقض فيها الرافعي نفسه ، لأنه من جهة مدح حكومة مصطفي النحاس علي اتخاذ قرار إلغاء المعاهدة بقوله :
( في يوم الاثنين 8 أكتوبر سنة 1951 وقع حادث هام في تاريخ مصر القومي ، كان بداية مرحلة جديدة من مراحل كفاح الشعب في سبيل تحقيق أهدافه ، ذلك هو إعلان إلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1936م . )
كما مدح الرافعي موقف ضباط وأفراد الشرطة الذين رفضوا الاستسلام للقوات البريطانية رغم تفاوت العدد والعدة بقوله :
( فردّ جنود البوليس البواسل على هذا العدوان بالدفاع المشرف ، وقابلوا الضرب بضرب مثله ، مع هذا الفارق بين القوتين في العدد والمعدات الحربية والأسلحة ، فإن قوة البوليس لم تكن تزيد على ثمانمائة جندي بثكنات بلوكات النظام ، وثمانين بالمحافظة ، وليس لديهم من السلاح سوى البنادق ، أما قوات الإنجليز فكانت تبلغ سبعة آلاف جندي مسلحين بالدبابات الثقيلة والمصفحات والسيارات والمدافع.
ونشبت بين الطرفين معركة دموية رهيبة ، أبدى فيها جنود البوليس الذين كانوا مرابطين في الثكنات وضباطهم شجاعة جعلتهم مضرب الأمثال في البطولة والتضحية ، ولم يتوقفوا عن إطلاق النار حتى نفذت آخر طلقة لديهم ، بعد أن استمرت المعركة ساعتين ، وعندئذ اقتحمت الدبابات البريطانية الثكنات وأسرت من بقي حيًّا من رجال البوليس.
أما القوة المصرية الأخرى التي حوصرت في دار المحافظة فقد تحصنت بها وأبلت أيضًا بلاء عظيمًا ، وقاومت العدوان البريطاني بروح عالية وشجاعة نادرة.
وإذا رأى الإنجليز شدة مقاومتهم أنذرتهم بأنهم سينسفون مبنى المحافظة على رؤوس من فيها إذا لم تسلم القوة سلاحها ، ولكن رجال القوة وقائدهم رفضوا الإنذار، وقال الضابط اليوزباشي مصطفى رفعت عندما طلب منهم التسليم : " لن يستلم البريطانيون منا إلا جثثًا هامدة "، وظلوا يقاومون ببسالة إلى النهاية ، ولم يتراجعوا أمام العدوان المسلح ، ولم يضعف من استبسالهم تهدم الدار من ضرب المدافع واشتعال النيران فيها ، واستمروا في مقاومتهم حتى نفدت ذخيرتهم ، ومن ثم استسلموا للأمر الواقع.
وأحنى قائد القوة البريطانية رأسه احترامًا لهم ، وقال لضابط الاتصال بأن رجال القوات المصرية جميعًا قد دافعوا بشرف واستسلموا بشرف ، فحق عليه احترامهم جميعًا ضباطًا وجنودًا.
وقد سقط في ميدان الشرف في هذه المعركة من جنود البوليس خمسون شهيدًا وأصيب منهم نحو ثمانين جريحًا.(
فلو كان الرافعي حريصا بالفعل علي الجيش المصري ومقتنع بموقفه من عدم المشاركة في معارك القنال ، لوجب عليه أيضا أن يرفض قرارات الحكومة ويعتبرها سابقة لأوانها في ظل جيش غير مؤهل لمواجهة الانجليز ، حتي لا يظهر بمظهر المفرط في دماء الشعب والشرطة حريصا علي دماء الجيش .
وبالعودة إلي كتاب " ثورة 23 يوليو في مصر " الذي نشرته موسوعة " مقاتل من الصحراء " وتعقيبا علي حدث هام من أحداث الثورة الشعبية ضد الانجليز والملك وهو " حريق القاهرة " الذي جاء نتيجة الغضب الشعبي من مذبحة الإسماعيلية التي ارتكبها الانجليز في حق ضباط وأفراد الشرطة يقول الكاتب :
( في صباح 26 يناير 1952م ساد البلاد موجة من الغضب ، واحتشدت قوات بلوك النظام الموجودة في منطقة القاهرة لإظهار سخطهم علي ذبحة الإسماعيلية التي حدثت لإخوانهم الجنود ، وتحركت هذه القوات في شبه مظاهرة ، واتجهت إلي جامعة فؤاد واجتمعوا بالطلبة هناك ، ثم اتجه جميع الطلبة ورجال البوليس في شكل مظاهرة إلي مبني مجلس الوزراء ثم إلي قصر عابدين ، وكانت هذه المظاهرات تنذر بالخطر وخاصة أن بها جانبا كبيرا من رجال البوليس المفروض فيهم حفظ الأمن والنظام ، ولكن الاستياء كان قد بلغ مداه ، وتجمع الأهالي حول هذا التجمهر وزاد عددهم وفلت النظام عندما بدءا يتحركون صوب ميدان الأوبرا ، وفجأة وبعد انضمام كثير من عناصر المخربين إلي المتظاهرين بدأ الاعتداء علي الممتلكات ومحطات الوقود والمحلات التجارية واشتعلت النيران في كل شئ في وسط البلد حتي عم النهب والسلب والتخريب ، وانتشرت الحرائق حتي وصلت إلي شارع الهرم واستمرت لوقت متأخر من الليل .
احترقت القاهرة وأقيلت حكومة الوفد ، وبقيت الأحكام العرفية التي أعلنتها ، وكان لحريق القاهرة أثر كبير علي الضباط الأحرار ، ففي مساء يوم الحريق اجتمعت اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار لدراسة الموقف ، فالأحداث وتطورها في البلاد تسير بخطي سريعة نحو حالة من التدهور لم يسبق لها مثيل ، وأن الزمام ربما يفلت في أية لحظة ويحدث انفجار من الشعب المتذمر ، وتصبح البلاد في حالة من الفوضي يصعب التكهن بنتائجها ، وكان لابد من التحرك بسرعة ......
ويقول عبد اللطيف البغدادي :
وعندما أثيرت تلك النقاط في هذه الظروف التي تحيط بنا في مناقشتنا وضرورة تحركنا السريع والعاجل كان جمال عبد الناصر يري عدم الاندفاع ، ويدعو إلي التأني ، وكانت هذه عادته ، وكان الرأي في اللجنة التأسيسية في هذه الجلسة يتجه إلي عدم التحرك ويحرص علي التريث والحذر ، ولما وجد عبد اللطيف البغدادي أنه لا يزال هناك إصرار علي عدم التحرك السريع علي الرغم من تلك الأحداث أعلن لزملائه أعضاء اللجنة عن انسحابه من حضور اجتماع اللجنة التأسيسية في المستقبل حتي يقرروا أن الوقت المناسب قد حان لتنفيذ خطتنا ، وأن يعتبروني في تلك الفترة جنديا لهم في سلاح الطيران ، وأنهم سيجدونني وزملائي ضباط القوات الجوية خير عون لهم حينما تحين الساعة .
هكذا يتضح لنا أن الجيش المصري لم يستحدث ثورة يوليو 1952م ، بل كان الشعب المصري في حالة زخم ثوري لا تتوقف ضد الانجليز وضد الملك فاروق ، بدأت الثورة بقرارات جريئة أصدرتها حكومة مدنية منتخبة انتخابا نزيها هي حكومة الوفد بقيادة زعيم شعبي منتخب هو مصطفي النحاس بتاريخ 8/10/1951م ، تبع هذه القرارات ثورة شعبية وحرب تحرير ضد الانجليز استشهد فيها أعداد كبيرة من أبناء الشعب المصري بدءا من شهر أكتوبر 1951م واستمرت خلال عام 1952م ، ولم يشارك فيها الجيش علي نحو ما أوضحنا والذي كان يقوم بدوره بجانب الملك والانجليز لدرجة أن الضباط الأحرار – علي نحو ما قيل في ذات الكتاب – وزعوا منشورات بعد حريق القاهرة ليمنعوا الجيش من توجيه سلاحه إلي الشعب .
وبعد أن آتت الثورة الشعبية ثمارها ضد الانجليز والملك وتسببت لهم في خسائر كبيرة وأصابت الملك بالفزع من المصير المجهول ، هنا قفز العسكر علي الثورة الشعبية ليسرقوها ويسرقوا خيراتها حتي يمنعوا أن تؤول السلطة والمكاسب والمغانم لحزب الوفد الذي اتخذ القرارات أو الإخوان المسلمين الذين قاموا بأكبر الأدوار في مواجهة الانجليز ، ونجحت خطتهم وسرقوا ثورة يوليو 1952م واستأثروا بها لأنفسهم وحرموا كافة القوي المدنية من المشاركة في الحكم بأي وجه من الوجوه ، وعلي ضوء انقلابهم سرقوا مصر كلها وشعبها وثرواتها لمدة تجاوزت الستين عام .
هؤلاء هم عسكر مصر يجيدون سرقة الثورات الشعبية ، وكما سرقوا ثورة يوليو 1952م سرقوا أيضا ثورة يناير المجيدة .